مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

نحو عروبة أوسع

دعوت ذات مرة إلى عروبة ناقصة، واليوم أدعو إلى عروبة زائدة، فما الذي تغير، لتتغير الدعوة؟ الدعوة الأولى كانت نداءً للتكامل الاقتصادي العربي، والسماح بحركة البشر والبضائع والأموال دونما التركيز على الطلاء الآيديولوجي أو الفكري لكل جماعة أو دولة تسبح في الفضاء الثقافي العربي، أي عروبة ناقص الآيديولوجية. فماذا كان جوهر دعوة العروبة الناقصة حينها، وما جوهر العروبة الزائدة أو العروبة الأوسع؟ وماذا يعني ذلك للتوجه الاستراتيجي العربي في المرحلة المقبلة؟ وأبدأ بتلخيص ما دعوت إليه من عروبة ناقصة، أولا: قلت يومها إن ما أدعو إليه هو قومية عربية ناقصة (minus)، أي مشروع قومي عربي دون الخرافات والزخارف التي أدت إلى سقوط القومية العربية بصفتها مشروعاً، عندما فشلت في أخذ خصوصية الدولة الوطنية في الاعتبار، وتجاوزت الأعراف الدولية. دعوت إلى قومية عربية في مواجهة التحديات الوجودية الآنية مبنية على الاقتصاد والأمن الإقليمي العربي، آخذين في الاعتبار الخصوصية الثقافية والسياسية للدول العربية، وهنا أركز مرة أخرى على أنها دول، يجب احترام أنظمة حكمها وخياراتها المحلية، نتشابك مع بعضنا بعضاً في مواجهة التهديدات الخارجية وحتى الداخلية، من أجل مساعدة كل دولة على حدة في تقليل هواجسها الأمنية ومساعدة شعبها على الازدهار والرفاهية. ولمواجهة التحديات الحالية المعقدة التي يفرضها علينا واقع أشبه بحالة حرب السويس عام 1956، التي كتبت شهادة وفاة الإمبراطورية البريطانية في المنطقة. أبحث عن خيال استراتيجي جديد متحفز، وأنا أنظر إلى التدخلات الإيرانية والإسرائيلية والتركية في بلداننا، التي يجب أن نتكاتف من أجل إيقافها.
إن حالة ذوبان الجليد بين أميركا وإيران في عهد أوباما كانت تفرض علينا أن نفكر كثيراً في طبيعة التحديات الاستراتيجية، التي تواجه الفضاء الجيوسياسي العربي من قبل دول الجوار غير العربي، المتمثلة في إسرائيل وإيران وتركيا من ناحية، وطموحات الدول العظمى من ناحية أخرى. إذا كان ذلك هو جوهر دعوة العروبة الناقصة، فما جوهر العروبة الزائدة أو الأوسع؟
ما أعنيه بالعروبة الأوسع هو الابتعاد عن التعريف الضيق للعروبة الذي يأخذ منحى عنصرياً أحياناً، والتركيز على العروبة بصفتها فضاءً ثقافياً جامعاً كخيمة واسعة تتسع لمن ليسوا عرباً بالعرق أو يظنون ذلك، ليشمل من يرون أنهم غير عرب، لكنهم ينضوون تحت مظلة الثقافة العربية. ومن تابع آخر أبحاث الجينات التي نشرتها مجلة «ناشيونال جيوغرافك» الأميركية، يدرك أن مسألة العرق ليست بالضرورة بذاك النقاء، الذي يظنه من يتصورون أنهم ينتمون إلى سلالة ما أو عرق ما. وهذا أمر لا يخص العرب فقط، ولكن يخص كل الأجناس التي تدعي النقاء العرقي.
من التحديات الكبرى التي تواجهنا اليوم هو تحدي إيران ونفوذها الإقليمي، وهذا التحدي يجد حله في العروبة الواسعة؛ فقد طرأ على حالة العروبة المغلقة أيام القومية العربية ومن بعدها ما سمي اصطلاحاً الصحوة، حالة تماهي ما بين العروبة والإسلام، وكلاهما بالمعنى الضيق: العروبة بمعنى العرق، والإسلام بمعنى الإسلام السني، وهذا ما أدخلنا فيما نحن فيه ثقافياً، إذ ربما أحس بعض الشيعة العرب في العراق مثلاً، بأنهم أقل في العروبة وفقا للمعنيين السابقين، ومن هنا جاءت فكرة البحث عن حماية، وجاء خطاب الغوغائية الإيرانية متفقاً مع هذا المزاج. أنتجت مجتمعاتنا عروبة ضيقة، وتبعها تضييق في تعريف من هو المسلم، ومن هذا الضيق نفذت إيران إلى عوالمنا.
إن إعادة تعريف العروبة بالمعنى الواسع، وكذلك توسيع دائرة الإسلام لهو بداية الحل في أزمات تستفحل في سوريا والعراق أساسها العرق والطائفة. وهذا ينسحب على شيعة لبنان والبحرين؛ فهؤلاء عرب ثقافةً وعرقاً قبل أن يكونوا شيعة. وسلم الأولويات في الهوية الوطنية وطريقة تركيبها هو بداية تلمس الخطأ نحو الحل لهذا التحدي الذي أعتبره استراتيجياً بامتياز بالنسبة للدولة الوطنية في العالم العربي.
والكلام نفسه يقال عن عروبة الإيزيديين ومسيحيي العالم العربي والأشوريين وكذلك اليهود، وكثير من الأقليات الذين يمثلون موزاييك أو أرابيسك الحالة الثقافية العربية، هؤلاء لن يجدوا انتماءهم لا في التعريف الضيق للعروبة، ولا في اختزال الإسلام في انغلاق التفسير الصحوي المتزمت، ومن هنا تكون العروبة الواسعة لا العروبة الضيقة هي الفضاء الأرحب، الذي يمكن للأقليات أن تتنفس فيه وتذوق من خلاله حلاوة الانتماء والمواطنة.
أرجو ألا يظن البعض أن ما أطرحه الآن هو تركيز على السياق الثقافي للعروبة وتوسيعه، دونما اهتمام بالمجال القانوني الذي يعد أساس المواطنة في الدولة الحديثة. ما أقصده هو أن المواطنة بصفتها أساساً قانونياً يجب أن تعلق على مشبك حضاري متين وواسع يسمح للجميع أن يكونوا جزءاً من هذا الكيان. العروبة الناقصة كنت أقصد بها تكامل الأسواق، وهي رؤية اقتصادية، أما العروبة الأرحب والأوسع والزائدة فهي السياق الثقافي الأوسع الذي يجعل التعاملات الاقتصادية والتجارية جزءاً من التفاعلات الإنسانية العامة دونما التوقف عند العرق والطائفة. ما أحوج العالم العربي إلى نوعي العروبة (العروبة الناقصة والعروبة الأوسع أو الزائدة)، بمعنى أننا نحتاج إلى سوق عربية مشتركة ومتكاملة، وكذا نحتاج أن نضع هذه السوق ضمن السياق الثقافي الأوسع. بمعنى «القوة الناعمة» (مصطلح الصديق جوزيف ناي) والذي يلومه البعض في العالم العربي لزوم ما يلزم، ومن دون فهم أو وعي. العروبة الأوسع تعني الخيمة التي تضم الجميع من عربستان في إيران إلى آشوريي سوريا.
إن الدعوة إلى عروبة كاملة وواسعة لهي الحل في مجتمعات بدأت تضيق الخناق على أنفسها. إن شيعة اليمن مثلاً أو الكويت وعندما جد الجد لم يستطيعوا إلا التركيز على عروبتهم. العروبة الأوسع تعني رجاحة العقل والابتعاد عن الانغلاق الثقافي الذي يعد الآفة الأولى للمجتمعات والثقافات. العروبة الأوسع هي الحل.