ليونيد بيرشيدسكي
TT

التكنولوجيا تقوّض الطلب المستقبلي على الخصوصية

صمم جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي حضوره على وسائل الإعلام الاجتماعية، لأن يكون آمنا من أعين المتطفلين. ولقد أنشأ حسابا خاصا على موقع «انستغرام» الذي لا يتابعه إلا أفراد عائلته فقط، واشترك في موقع «تويتر» تحت اسم مستعار. وبعد ذكر واحد فقط في أحد الخطابات العامة، استغرق الأمر بضع ساعات فحسب من وقت أحد الصحافيين لاكتشاف الحسابات، مع يقين يقترب من مستوى المائة في المائة (من الواضح أنه ردا على القصة الإخبارية، كان حساب (تويتر) - الذي بدأ سريعا في اكتساب كثير من المتابعين - قد أصبح الآن متاحا فقط للمشتركين في الموقع بعد موافقة صاحب الحساب الأصلي).
وإن كان هناك أي شخص يريد فعلا الحصول على صور عائلة السيد كومي وتاريخ قراءة المدونات، فسوف يتعرض حسابا «انستغرام» و«تويتر» للقرصنة في أي وقت من الأوقات. وعلى أي حال، فإن الشركات المعنية تملك البيانات، ولقد صوت مجلس الشيوخ بالكونغرس الأميركي مؤخرا بالسماح للشركات الموفرة لخدمات الإنترنت ببيع تاريخ التصفح الشخصي وتواريخ استخدام التطبيقات إلى المعلنين أو، كما هو مفترض، إلى أي شخص يريد الحصول عليها. وفي الأثناء ذاتها، فإن خصوصية الإنترنت للمواطنين غير الأميركيين، ليست تحت الحماية على الإطلاق بفضل الأمر التنفيذي الذي يخبر الوكالات الحكومية الأميركية أن الرعايا الأجانب في البلاد لا يشملهم قانون الخصوصية بالولايات المتحدة، حتى المسؤولون الأوروبيون الذين يتمسكون بوهم ترتيبات «درع الخصوصية» غير القابل للتنفيذ مع الولايات المتحدة. (وبموجب ذلك، فإن المواطنين الأوروبيين المتضررين من ذلك يمكنهم مقاضاة الحكومة الأميركية أمام المحاكم، ولا بد أن يوجه نحوي الاتهام الرسمي بأنني زعيم تنظيم داعش الإرهابي قبل أن أفكر في هذه الخطوة). وينبغي على الناس من جميع أنحاء العالم أن يدركوا أن استخدام أي من الخدمات التي تقدمها شركات الإنترنت الرئيسية في الولايات المتحدة يعني التخلي بالكلية عن حقوق الخصوصية وفتح البيانات الشخصية إلى الحكومات والمعلنين والصحافيين والمحققين الخواص. كما أنه يجعل من أعمال القرصنة الخبيثة أكثر سهولة من ذي قبل بسبب أن كثيرا من البيض قد تم وضعه في سلال كبيرة.
ولكن حتى الآن، قد ازدهرت تلك الخدمات على أي حال بفضل مفارقة الخصوصية المعروفة: «يقول الناس إنهم مهتمون بشأن خصوصيتهم، ولكن من الناحية العملية فإنهم مستعدون للتخلي عنها عن طيب خاطر». والتفسير المفضل عندي لهذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته «الفائدة الفورية»: «عندما تكون فوائد الكشف والإفصاح فورية في حين تتأخر المخاطر قليلا، فإن الفوائد تكون أعلى في نظر الجميع من المخاطر». وهناك دراسة أجراها مركز بيو في العام الماضي حول تلك المفارقة، وخلصت إلى أن عددا كبيرا من المواطنين الأميركيين ليس لديهم مشكلة في الكشف عن تواريخ التسوق الخاصة بهم في مقابل بطاقة التخفيضات، ولكنهم لم يوافقوا على تركيب أجهزة التتبع في السيارات مقابل بوالص التأمين الرخيصة على سياراتهم.
والمفاضلة المذكورة هنا، رغم كل شيء، شديدة الميوعة، فقد يصبح العملاء شديدي العداء حيال التدخل في الخصوصيات من قبل صناعة التكنولوجيا إذا كانت هناك انتهاكات أمنية كبيرة، وكثير من الناس الذين يتأثرون بها على نحو شخصي. ولذلك، في حين أن أغلب الاستثمارات تتدفق في الوقت الحالي إلى الشركات التي تعمل منتجاتها على انتهاك مزيد من الخصوصية - مثل شركة أوبر، التي تعلم كل شيء عن تحركات العملاء ومن المعروف عنها إساءة استخدام هذه المعلومات، أو شركات إنترنت الأشياء الناشئة التي تقوم في الأساس بتثبيت تكنولوجيا المراقبة في منازل المواطنين - فإن حماية الخصوصية قد تكون اللعبة الكبرى التالية لدى أغلب شركات وادي السيليكون.
وفي حين أن هناك كثيرا من منتجات حماية الخصوصية المتاحة، من برامج التصفح التي تحجب المتسللين إلى تطبيقات الدردشة التي توفر التشفير بين الطرفين، فإن استخدام بعض أو كثير من هذه المنتجات لا يضمن للمستهلك الأمان والسلامة الحقيقية؛ حيث يحتاج المستخدمون إلى منهج شامل يستلزم التغيير في نمط وأسلوب الحياة من أجل البقاء في أمان وسلامة مع مداومة الاتصال بشبكة الإنترنت وبالعالم التكنولوجي من حولنا.
هناك، على سبيل المثال، شركة تدعى «بوريزم» تبيع الحواسيب المحمولة ذات أعلى قدر ممكن من الخصوصية والأمان. وهذا يعني عدم استخدام نوع معين من المعالجات - مثل المنتجات الأخيرة من شركة إنتل - التي تسمح بالدخول عن بُعد إلى الحواسيب حتى في حالة عدم تشغيلها، كما أن تلك الحواسيب المحمولة تعمل بنظام للتشغيل (الذي يعتمد على بيئة لينكس) الذي يمنع جمع المعلومات، ويوجد فيه برنامج لضمان الخصوصية، من تصفحات العملاء وحتى تبادل الرسائل المشفرة وإلى تطبيق خرائط «غوغل» الذي يتجاوز الخصوصية. وإذا تحلى المرء بالانضباط الكافي للتخلي عن شبكات التواصل الاجتماعي، وخصوصا موقع «فيسبوك»، حيث ممارسات جمع البيانات فائقة التعقيد حتى يمكن القول إنها عصية على الفهم لدى المواطن البسيط، فيمكن لجهاز «بوريزم» التكفل برعاية جميع الاحتياجات الأساسية الأخرى الخاصة بالخصوصية، ولكن شركة «بوريزم» من الشركات الصغيرة، التي اضطرت إلى التمويل الجماعي لتغطية المصروفات الأساسية، إلا أنها جذبت بعض الاهتمام في الصحافة التكنولوجية، ولكن ليس بالقدر الكافي لتحقيق الانفراجة المطلوبة؛ فإن الجمهور المستهدف لدى الشركة يتسم بجنون الشك والارتياب.
ولأن كثيرا من اقتصاديات الشركة يعتمد على التمويل من خلال الإعلانات، والتقدم في المجالات المهمة مثل البيانات الكبيرة والذكاء الصناعي يعتمد بالأساس على ميل الناس إلى تبادل كثير من المعلومات، وكثير من هذا التبادل يتم عن غير قصد منهم، فإن مخاوف الخصوصية قد اتخذت المقعد الخلفي من المشهد العام. ولا يعني ذلك، رغم كل شيء، أن الوضع الراهن يمكنه الاستمرار.
كنت قد كتبت في الآونة الأخيرة حول نقص مماثل في الاستثمار في الأجهزة التي تعمل على تقليل، وليس زيادة، اعتماد الناس على الأجهزة، عند مرحلة ما، عندما حكمت العلوم الطبية أن إدمان وسائل الإعلام الرقمية قد أصبح في مثل خطورة إدمان تدخين التبغ، وعندما يكون هناك ضغط من الرأي العام لمكافحة ذلك الاتجاه، فسوف يأتي المال لتغطية ذلك. ويصدق الأمر نفسه بالنسبة للخصوصية. كلما أصبحت صناعة التكنولوجيا أكثر تطفلا، انخفض عدد المستخدمين الذين يرغبون في أن يتحولوا إلى السلعة التي تبيعها شركات التكنولوجيا إلى المعلنين أو غير ذلك من المستغلين للبيانات السلوكية، وسوف يزداد الطلب، إثر ذلك، على وسائل المقاومة والمكافحة. ويراهن المستثمرون على مستقبل «الأخ الأكبر» الذي قد يشهد بعض المفاجآت غير السارة، وأولئك الذين يراهنون على مقدرته على التحمل والاستمرار ربما يُكافأون على حسن التعقل والبصيرة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»