رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

زمن التحولات والتأويليات الكبرى

لقد أتى علينا زمانٌ كان فيه الجميع يتحدثون عن «الاستثناء العربي». وقد تمثّل استثناؤنا في نظر هؤلاء أننا لم نلتحق لا بموج ديمقراطية الولايات المتحدة، ولا بسكون «نهاية التاريخ». ثم بدأت نتائج استثنائنا بالظهور: تفاقُم الديكتاتوريات، وانفجارات التمرد باسم الإسلام. واحتار في هاتين الظاهرتين المفسِّرون: هل هما التعبير عن التأزم الناجم عن التخلف عن رَكْب العالم، أم هما التعبير عن التململ تحت وطأة هيمنة نظام العالم الجديد؟ وعندما هاجمت «القاعدة» الولايات المتحدة عام 2001، كان الاتهام لكل العرب وللمسلمين!
لقد أحسَّ المفكرون العرب قبل غيرهم بالمشكلة التي تواجههم في العالم ومعه. ولذلك فقد انصرفوا منذ سبعينات القرن العشرين، بل قبل ذلك، للتفسير واقتراح الحلول. ولأنّ البارزين منهم كانوا واقعين تحت وطأة الحتمية الماركسية؛ فقد جزموا بأن مشكلة العرب كامنة في الإسلام ومواريثه، ولذلك قالوا وبصيغٍ مختلفة بضرورة القطيعة مع ذاك الماضي الخامد، إمّا للتحرر منه أو لتحريره من استلقائنا فيه وعليه! وواجههم الصحويون الإسلاميون الصاعدون في مزاج الجمهور بضرورة التحرر من الماركسيات وأخواتها الرأسماليات، وإعادة فرض الدين (الجديد) على الفئات التي غادرتْه، من طريق إحلال حاكمية الدين محلَّ حاكميات الجاهليات الغربية الواردة! وهكذا تحول الصراع في الحاضر العربي والإسلامي وعليه، صراعاً على الماضي والتاريخ فهماً وتقديراً باتجاه النفي والقطع أو الإحلال. وزاد الطين بِلّة التغيرات العالمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية وتأثيراتها على الرؤى العالمية أيضاً للثقافات والحضارات. فتصدَّعَ الاستشراق التقليدي الذي كانت أُطروحة «التاريخ الثقافي» قد سادت فيه، لصالح أصاليات «المراجعين الجدد» التي صار هَمُّها استعادة «التاريخ الحقيقي» لأصل الإسلام، محلَّ السردية الكبرى التي قال المراجعون إنّ الأرثوذكسية الإسلامية اصطنعتْها لتعظيم نفسِها وإنجازاتها التاريخية.
وما اعتبر مفكرو القطيعة من المثقفين العرب بمصائر الثورة الثقافية التي اجترحها حبيبهم ماوتسي تونغ، والتي أراد من ورائها التخلص من التاريخ الصيني ومواريثه فقضت عليه، لكن بعد أن قضت على الملايين. ولا أدرك الصحويون المتأسلمون أنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة عالمية، ولا يمكن تقزيمها إلى آيديولوجيا سلطوية عازلة، وقاطعة مع العالم وعليه. أما المستشرقون الجدد والمراجعون الجدد فقد عملوا بمثابة طلائع للمحافظين الجدد الذين ما عادوا يرون في العالم المتحضر إلاّ تجلياً لانتصار الحضارة اليهودية - المسيحية.
إنّ الصراع على التاريخ والحضارة، هو بمعنى من المعاني صراعٌ على الحاضر والتحكم فيه. والتحكم بالحاضر وبالمباشر له قطبان: الوضع الاقتصادي، والوضع السياسي ونظام الحكم. وفي الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كان وضْعُ النظام الاقتصادي العالمي قد انحسم لصالح الرأسمالية المسيطرة بالفعل رغم توالي الأزمات عليها. ولذلك فإنّ مآلات التجاذب صارت إلى أنظمة الحكم، وأيُّها الأكثر ملاءمة لاقتصاد السوق وتيارات العولمة. وفي حين رأى السوفيات القدامى، أنّ الديكتاتوريات العربية أفضل لهم، رأى الأميركيون والأوروبيون أنّ رجال الأعمال وثقافتهم البراغماتية هي الأفضل للديمقراطيات الجديدة. وبذلك فإنّ الجمهور تُرك وحيداً كما حصل لحصان محمود درويش، فاستقطب فئاتٍ واسعة منه الصحويون الجدد، لاستخدامه في إيصالهم للسلطة أو المشاركة فيها مع الحاكمين، واستقطب فئاتٍ أُخرى الأميركيون للاستخدام في مصارعة الاتحاد السوفياتي. أما مثقفو القطيعة العرب فثابروا على تقدميتهم في استهداف الدين وتقاليده الكلاسيكية (الرجعية)، واعتقدوا أنهم بذلك (وبسبب عدم التسيُّس وضآلة الوعي بالتاريخ) إنما يخدمون الديكتاتوريات (الوطنية) العربية، ويرجونها في الوقت نفسِه الإصغاء لمطامح الديمقراطية الشعبية! وأنا أزعُمُ أنهم ما فهموا الموقف الثقافي ونتائجه السياسية والاستراتيجية، لأنهم وعلى طريقة دون كيشوت إنما كانوا يُصارعون الموروث التراثي الذي لم يَعُدْ فاعلاً ولا مؤثراً، ويعملون مثل الصحويين على قطيعة مع الإسلام المتقادم الذي كرهه الإحيائيون الجدد مثلما كرهوهُ هُم! لقد كانت استراتيجيات التقدميين والصحويين واحدة، وهي التخلُّص من الموروث، لكنّ الأهداف مختلفة. فالتقدميون يريدون «تخليد» الأنظمة الحاكمة من طريق تحديثها، والصحويون يعملون على اصطناع إسلامٍ جديدٍ ذي أنيابٍ حادّة مؤهَّل من طريق «النظام الإلهي الكامل» لمكافحة طرفي الحرب الباردة، وجرف الأنظمة القائمة وإحلالهم محلَّها، وهذه كلُّها أمورٌ لا يصلُحُ لها الإسلام التقليدي.
في زمن التحولات الكبرى لا بد من تأويلياتٍ كبرى. فموجات القتل والتهجير والشيطنة وتخريب البلدان والعمران، صارت حالة مستشرية على العرب وعلى الإسلام وهي موجاتٌ يقودها قطعيون متشددون، وإيرانيون ومتأيرنون عدميون. وروسٌ وأميركيون وصينيون وهنود، يزعمون أنهم يريدون بذلك حماية أنفسهم، وأمن العالم. لكنّ العالم بيغيِّر، وما انتهى التاريخ ولا سيطرت الحضارة اليهودية - المسيحية، ولا المهدوية الإيرانية والداعشية. لكنها أزمة هائلة وشديدة الاكتساح تلك التي يعاني منها ديننا وتُعاني منها أمتنا. كما حصل في القرن السابع الميلادي، عندما انتظر العالم المتأزم أمراً جديداً من خارج مُلْك فارس والروم، فدخل العربُ على مسرح التاريخ ليغيِّروه مخرجين له من العبث والتأزم والتشرذم، فكذلك هو الأمر اليومَ وأفظَع. ولا تعودُ الفظاعة لأنّ الأزمة الحاضرة أشدّ؛ بل للوهم العالمي أنّ العرب ودينهم هما علة الأزمة وسببها، بينما في القرن السابع كان العرب على هامش التاريخ ومنسيين. أما اليوم فنحن في عين العالم، وتحت مدافعه وطائراته وكيماوياته. ثم إنّ الأمر أفظع، لأنّ العالم يستخدم ضد الأمة والدين القَتَلة من الانشقاقيين الداعشيين والمتأيرنين، والذين يزعمون أنهم يريدون إنقاذنا بقتلنا وتهجيرنا وتخريب ديارنا.
لقد قلتُ في حفل جائزة الملك فيصل بالرياض إنّ لدينا مثقفين وسياسيين وعلماء دين وإعلاميين ثلاث أَولويات: استنقاذ الدولة الوطنية العربية، واستعادة السكينة في الدين من طريق المراجعة والإصلاح، وتصحيح العلائق بالعالم. وقُطب الدائرة في هذه الأولويات إعادة السكينة والثقة بالدين والدولة، وبين الدين والدولة. ولأنّ هذه الأمور جميعاً تتطلب مراجعاتٍ كبرى، قلت إننا محتاجون في زمن التحولات الكبرى إلى تأويليات كبرى يجترحها المثقفون الكبار، وعلماء الدين الكبار والجدد، ورجال الدولة الكبار والجدد. وأولُ شروط التأويل المحرِّر الخروجُ من القطائع: القطيعة مع التاريخ، والقطيعة مع جمهورنا وجماعتنا، والقطيعة مع العالم. وهذا يعني الإقبال على مراجعة رؤية التاريخ والدين في التاريخ والحاضر باتجاه الوصل والثقة والفهم والتجاوُز. والإقبال على اجتراح سياسات لحماية الناس وأرضهم واستقرارهم لوضع ثقة بالسلطات الجديدة. والإقبال على بناء ثقافة لا تخافُ من العالم ولا تخيفه بل تطلب الشراكة فيه.
في زمن التحولات الكبرى نحن بحاجة إلى تأويلية كبرى ليكون لتضحيات الناس معنى، ولتظهر بدائل مستقبلية، ونستعيد الثقة بالحياة وتكونَ حياة أفضل!