ليونيد بيرشيدسكي
TT

رسالة إلى بوتين من 42 مليون متوفى

تبعاً لبيانات رسمية، فإن أكثر من 800 ألف شخص داخل موسكو وحدها، بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شاركوا في المسيرة التي جرى تنظيمها الثلاثاء الماضي إحياءً لذكرى مشاركة جدودهم في الحرب العالمية الثانية. وتشكل هذه الذكرى أساس مدرسة الوطنية الروسية التي يتزعمها بوتين، وجزءاً كبيراً من الآيديولوجية الكامنة وراء التحركات الجيوسياسية القوية التي أقدمت عليها موسكو في الفترة الأخيرة.
ومع ذلك، فإن ثمة وجهاً آخر لما يطلق عليه حركة «الفوج الخالد» يقوّض هذه الآيديولوجية: ذلك أن قادتها يدعون أن هناك معلومات نزعت عنها السرية تكشف أن خسائر الاتحاد السوفياتي خلال الحرب وصلت حداً فلكياً بلغ 42 مليون نسمة، وليس 27 مليوناً حسب البيانات الرسمية.
كان «الفوج الخالد» ـ تقليد انتظام الأفراد في مسيرة حاملين صور أقاربهم الذين خاضوا الحرب إحياءً لذكرى النصر السوفياتي في 9 مايو (أيار) ـ قد بدأ حركة شعبية في العقد الأول من الألفية الجديدة، وتولى ثلاثة صحافيين اختيار اسم الحركة. وجاء قرار الكرملين بتزعم المسيرات ليحل محل العفوية الوطنية التي أبداها نشطاء محليون. كما عمد الكرملين إلى استغلال المسيرات في الترويج لدعايات رسمية ترمي لجعل النصر الذي تحقق عام 1945 حجر الزاوية في الشعور الروسي بالفخر والاعتزاز الوطني. واللافت أن خلافات ومشاحنات اندلعت بين منظمي المسيرات حول مدى قربهم من السلطات الرسمية، مع انشقاق مكتب موسكو الخاص بحركة «الفوج الخالد» بحيث أصبح متوافقاً تماماً مع جهود الكرملين.
ومع ذلك، ثمة أمر يتعلق بالحدث الأصلي ظلَّ متناقضاً مع الخطاب الحكومي: ففي كل الأحوال، تبقى الحقيقة أن الغالبية الكاسحة من الأفراد الذين رفعت صورهم ماتوا. وقد قتل الكثيرون منهم في حرب تسببت في تدمير سكان الاتحاد السوفياتي، لدرجة أنها تركت في بعض الأحيان عائلات كبرى وقرى بأكملها دون رجال.
في فبراير (شباط)، عقد البرلمان الروسي جلسة استماع حول حركة «الفوج الخالد» باعتبارها عنصراً في «التربية الوطنية» للنشء الروسي. وجاء العدد الكبير من الكيانات البرلمانية والحكومية التي قررت المشاركة في المسيرات التي نظمتها الحركة، بمثابة مؤشر لا لبس فيه على توافر دعم على أعلى مستويات.
ومع افتتاحه الجلسة، تحدث المشرع فياتشيسلاف نيكونوف مدافعاً عن النصر الروسي في مواجهة هجوم مختلط وصعود النازية الجديدة داخل أوكرانيا. إلا أن مشرعاً آخر، نيكولاي زيمتسوف، الذي يعد واحداً من أوائل المشاركين في تنظيم الحركة، وأحد أقوى الداعين لإضفاء صبغة رسمية عليها، أدلى بدلوه على نحو غير متوقع.
في تقرير جرى عرضه على جلسة الاستماع، قال زيمتسوف إنه تبعاً لبيانات غير رسمية تعود إلى سنوات ما بعد الحقبة السوفياتية، فإن 41.979 مليون مواطن سوفياتي قتلوا أثناء الحرب العالمية الثانية ـ بينهم نحو 19 مليون جندي و23 مليون مدني.
جدير بالذكر، أن مسألة إحصاء ضحايا الحرب العالمية الثانية شكلت دوماً جزءاً أساسياً من السياسة الحكومية في روسيا. من جانبه، تمسك جوزيف ستالين بتقدير منخفض للخسائر السوفياتية ـ 7 ملايين شخص. بعد ذلك، اعترف نيكيتا خروشوف آنذاك بأن 20 مليون شخص فقدوا أرواحهم جراء الحرب. وكان هذا الرقم الذي تعلمته أثناء انتظامي بإحدى المدارس السوفياتية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ومع ذلك، فإنه خلال السنوات الأخيرة للاتحاد السوفياتي، تحديداً في عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف، ارتفع الرقم الرسمي إلى 27 مليون شخص. وقد أثار هذا الرقم شعوراً بعدم الارتياح، بالنظر إلى أن ألمانيا فقدت 7.3 مليون نسمة فقط، تبعاً للإحصاءات الرسمية، التي يرى بعض المؤرخين أنها أقل من الرقم الحقيقي. وقد أثارت هذه التكلفة الفادحة للنصر السوفياتي تساؤلات حول أسلوب إدارة ستالين للحرب والقيمة التي أولتها الدولة السوفياتية المنتصرة للروح البشرية.
ومنذ ذلك الحين، تم الاستقرار عند رقم الـ27 مليون نسمة. وقد استخدمه بوتين في خطاباته. جدير بالذكر، أن دراسة أجراها الجنرال غريغوري كريفوشيف تحت رعاية الدولة عام 2009 بعنوان «كشف النقاب عن الحرب الوطنية الكبرى»، قدرت الرقم النهائي لضحايا الحرب بـ26.6 مليون نسمة. بيد أن هذا الرقم يعتمد حقيقة الأمر على جهود استكمال خارجي لبيانات تتعلق بتعداد السكان. أما تقدير زيمتسوف المعتمد على رؤية المؤرخ إيغور إفليف، فلا يعتمد على هذه البيانات. والملاحظ أن لجنة التخطيط الحكومي، التي عملت بمثابة المركز الإحصائي والمعني بتحديد الحصص في إطار الاقتصاد السوفياتي المخطط مركزياً، توافرت لديها أرقام أكثر دقة. إلا أن إفليف يرى أن هذه البيانات لا تتضمن الجنود الذين جرى وضع إحصاءات منفصلة لهم.
ويعتقد إفليف أنه بصورة إجمالية بلغ عدد سكان الاتحاد السوفياتي 205 ملايين نسمة عام 1941 و169.8 مليون نسمة عام 1945. وعندما نضع في الاعتبار عدد المواليد والوفيات الطبيعية بمعدلات عام 1941، سنجد أن الخسائر المرتبطة بالحرب تبلغ قرابة 42 مليون شخص.
ورغم أن بعض المؤرخين شككوا في التوجه الذي اتبعه إفليف، فإن الرقم النهائي الذي خلص إليه إفليف يجري تداوله الآن داخل دوائر روسية شبه رسمية، على رأسها المسؤولون المعنيون باستخدام ذاكرة الحرب في «التربية الوطنية». وإذا صح هذا الرقم، فإنه يطرح أمام الروس ضخامة المأساة الروسية والثمن الفادح الذي تكبده الوطن لتخليص العالم من النازية ـ لكنه في الوقت ذاته ينبئ عن انتصار هائل الكلفة حققه حاكم ديكتاتور لم يعبأ بأعداد الضحايا في سبيل تنفيذ أوامره. واللافت أن ثمة جهوداَ متعمدة لإضفاء فخامة على الاحتفالات الروسية بالذكرى السنوية للنصر منذ غزو القرم عام 2014، والدعوات واسعة النطاق التي ترفع شعار «يمكننا تحقيق ذلك من جديد».
وبالنظر إلى الحجم الهائل للتضحية التي قدمتها روسيا، نجد أنه ينبغي لها الحرص أكثر من أي دولة أخرى في العالم على تجنب التورط في حرب جديدة ـ بل وأكثر من ألمانيا ذاتها التي لطالما عمدت إلى الإبقاء على نشاطاتها العسكرية عند مستوى منخفض رغم تخلصها الكامل من إرث حكامها العدوانيين في القرن الـ20، وإذا كانت روسيا حقاً فقدت ربع سكانها في الحرب العالمية الثانية، فذلك أدعى لأن ترفع شعار «لن نقدم على هذا مجدداً قط».
وعليه، يتضح أن سياسات السلب والنهب التي ينتهجها بوتين ضد الدول المجاورة، واستعداده للتدخل عسكرياً بمناطق بعيدة للغاية عن الحدود الروسية، تمثل تجاهلاً للذكريات المؤسفة التي يثيرها في الأذهان «الفوج الخالد».
حتى الانتصارات قد تأتي بتكلفة لم تخطر على بال بشر ـ ربما يجدر ببوتين التفكير في هذا الأمر أثناء مشاركته في المسيرة حاملاً صورة والده الذي شارك بالحرب، لكنه كان محظوظاً بما يكفي لأن يعود إلى وطنه، لكن الحال اختلف مع شقيقه، فيكتور، الذي توفي جراء إصابته بالدفتيريا في ليننغراد أثناء محاصرة القوات النازية للمدينة.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»