فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

«اتفاق آستانة» وتحركات موسكو

آخر تحركات موسكو في القضية السورية سعي روسيا لتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن للمصادقة على اتفاق آستانة، وجعله اتفاقا ملزما للتنفيذ في إطار معالجة القضية السورية. وهو مشروع سيواجه بالرفض حسب أغلب التقديرات من قبل أكثرية المجلس، أقله بسبب الموقف الأميركي الذي اعتبر أن واشنطن لم تكن طرفا في الاتفاق، وقد أضافت التصريحات الأميركية إلى ما سبق إعلان رفض وجود إيران طرفا ضامنا في الاتفاق، وهي النقطة الأهم في مؤشرات الرفض الأميركي لمساعي تحويل الاتفاق إلى قرار أممي.
أساس لعب موسكو في القضية السورية عبر اتفاق آستانة يكمن في أمرين؛ أولهما توقيته، والثاني مضمون الاتفاق وما يحيط به. فقد جاء الاتفاق في ذروة الحديث عن جريمة الكيماوي التي ارتكبها نظام الأسد في خان شيخون في أبريل (نيسان) الماضي، حيث قتل وأصيب مئات السوريين بغاز السارين المحرم دولياً، مما استدعى تنديدا دوليا واسعا، وإجراءات بينها تحقيقات استخبارية وأخرى حقوقية وصحافية، أثبتت الجريمة، وأكدت ضرورة محاسبة نظام الأسد على جريمته، فيما انصبت مساعي موسكو، ليس فقط على نفي الهجوم فقط، بل اتهام أطراف أخرى بتنفيذه، قبل أن تطلب إجراء تحقيق دولي في الموضوع، وزادت في تضليل المجتمع الدولي، أن ضغطت بمساعدة قوى أخرى، لأخذ المعارضة إلى آستانة لفرض اتفاق عليها، وعندما اعترضت المعارضة على استمرار هجمات النظام وحلفائه، وانسحبت من الاجتماعات، وقعت روسيا الاتفاق مع كل من إيران وتركيا لإلزام المعارضة به، وإجبارها على تنفيذه، لأن من شأن قيامها برفضه القول إنها ترفض الحلول السياسية، ووضعها في الاتهام بدل نظام الأسد الذي أفلت من عقوبة هجومه على خان شيخون.
ولأن بدت تحركات موسكو في توقيت الاتفاق وما يحيط به مكشوفة الأهداف، فإنها تبدو أكثر وضوحا في مضمون الاتفاق الذي يمكن التوقف عند ثلاث نقاط مهمة من محتوياته.
النقطة الأولى تتعلق بالأطراف الموقعة عليه. إذ هو يؤكد الدور المحوري لموسكو وطهران في القضية السورية، وهو دور ظهر وكأنه يهتز مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، وسط التصريحات التي أطلقها كبار المسؤولين الأميركيين حول الوضع في سوريا، ودور كل من روسيا وإيران وميليشيات الأخيرة، إضافة إلى التدخلات الأميركية الأخيرة، لا سيما إرسال قوات مقاتلة إلى المنطقة الشمالية الشرقية بالتزامن مع تقديم واشنطن دعما كبيرا إلى حلفائها من «قوات سوريا الديمقراطية» في معركتها ضد «داعش».
والنقطة الثانية تخص إيران، بوضعها في مكانة المتدخلين في معالجة القضية السورية، بعد أن اقتصر دورها على أن تكون طرفا في الصراع السوري إلى جانب نظام الأسد وروسيا طوال السنوات الماضية، وكانت موسكو أسست لهذا التحول أواخر العام الماضي عبر إصدار إعلان موسكو مع كل من إيران وتركيا، وقد وعد الثلاثة ببذل جهودهم المشتركة لمعالجة القضية السورية، رغم تمايز واختلاف دور وتأثير كل منهم في القضية السورية، خصوصا إيران الحامية الرئيسية لنظام الأسد، باعتباره ركيزة أساسية في استراتيجيتها في المنطقة، إضافة إلى مشاركتها في كل ما ارتكبه النظام من جرائم قتل وتدمير وتهجير بحق السوريين في السنوات الماضية، وكله مستمر ومتواصل مع مساعي موسكو، لجعل إيران في دور المشارك في علاج القضية السورية، لكن وفق أجندتها وأهدافها في سوريا والمنطقة.
والنقطة الثالثة، تتصل بدور تركيا التي اضطرت بفعل ظروف متعددة ومعقدة رغم اختلافها مع روسيا وإيران حول القضية السورية، إلى أن تتقارب مع الطرفين بهدف تعزيز حضورها في القضية السورية بعد أن ضنَّ عليها حلفاؤها الغربيون، لا سيما الولايات المتحدة بذلك، وفضلت واشنطن التحالف مع خصم تركيا الرئيسي «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd)، فرع حزب العمال الكردستاني (pkk) في تركيا، الذي تصفه تركيا بـ«الإرهابي»، وقد جعلت موسكو من الرغبة التركية مقدمة للدخول الروسي على خط المعارضة السورية والمسلحة منها بشكل خاص، ليس لأخذها إلى آستانة فقط، وإنما للتأثير على مواقفها وسلوكياتها في اجتماعات جنيف بحكم العلاقات الخاصة التي تربط بين تركيا والهياكل الرئيسية للمعارضة السورية، وفي مقدمتها الائتلاف والفصائل المسلحة، مما أدى على نحو إجمالي إلى إضعاف الموقف التركي في بعض جوانبه من جهة، وإضعاف المعارضة السورية السياسية والمسلحة على السواء من جهة ثانية.
وتؤشر محتويات الاتفاق إلى جوانب أخرى في تحركات موسكو في اتفاق آستانة، والأبرز فيها أنه حول المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى معازل، لا تمنع التواصل فيما بينها فقط، وإنما تمنع قيامها بالتضامن فيما بينها ومؤازرة بعضها بعضاً، بينما كان المطلوب تحويلها إلى مناطق آمنة ممتدة وموحدة، والفرق بينهما كبير جداً، يبدأ من الاسم حيث الأولى مناطق «خفض الصراع»، بمعنى أنه مستمر فيها، فيما الثانية لا صراع فيها، وقد أضيف للأولى أنها تحت رحمة خصومها من قوات النظام والروس والإيرانيين الذين سيواصلون هجماتهم على جماعات «الإرهاب والتطرف» التي يدخل معارضو النظام أيا كانوا في قائمتها، وليس فقط «داعش» و«النصرة» كما يشير اتفاق آستانة، ولن تتمكن تركيا من لعب أي دور مختلف بسبب تعقيدات الحركة التركية في سوريا، والمحتوى لا يقل سوءا في موضوع المناطق الأمنية المحيطة بالمعازل، التي ستوفر للروس والإيرانيين وللنظام لاحقا الوقت والإمكانيات لحصار المعازل ورصد القوى القائمة فيها، والقيام بكل التحضيرات السياسية والعسكرية لشن الحرب على المعازل، والقضاء على من فيها من مقاتلين ومدنيين، وقد تعوّد العالم على قيام هؤلاء بخرق أي اتفاقات أو التزامات، ما دامت تطلبت مصالحهم ذلك دون أن يجدوا من يحاسبهم أو يعاقبهم.
ومما لا شك فيه، أن جوهر تحركات موسكو كما تتجلى في اتفاق آستانة، يتبدى في مساعي تكريس آستانة، واتفاقها هو الأبرز بديلا عن جنيف الذي يبدو فيه الحضور والدور الروسي أقل مما هو عليه في آستانة الذي تسير خططه وأعماله ومفاوضاته جميعا تحت السيطرة والتأثير الروسيين بصورة شبه مطلقة، مما يتيح لروسيا وحلفائها خصوصا إيران ونظام الأسد ترتيب كل تفاصيل وحيثيات القضية السورية وفق مصالحها، وعلى حساب المعارضة، وبالنهاية ضد مصالح الشعب السوري ولصالح نظام الأسد.