سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«صنايعية» مصر

«الصنايعية» كلمة من اللغة المصرية لم ترد في لغة أخرى. جاء شرحها مفصلاً غير وافٍ في أغنية من «صنع» ثلاثة عباقرة: تأليف بديع خيري، ولحن السيد سيد درويش، وغناء فيروز. وتقول الأغنية: «يلاَّ بنا على باب الله / يا صنايعية / يجعل صباحك صباح الخير / يا سي عطية».
وفي وصف بديع خيري أن «الصنايعية» مظاليم وعمال ومتعبون. لكن جنابك تدرك أن اللغة المصرية أغنى من أن تسلم معانيها لشاعر واحد. ولذا، فإن الصنايعي قد يكون أيضاً ابن مهنة، وحِرَفياً، وأسطى، ومُعلِّماً، وخلاّقاً، ومبدعاً، ومخترع كولونيا «ثلاث خمسات» زي العم حمزة الشبراويشي.
وكتاب «صنايعية مصر» لعمر طاهر، قاموس بديع يضم كل من هو أهل لحمل مرتبة الشرف هذه في حياة مصر. «صنايعي» هنا بمعنى الرائد، الأول، والباش مهنته. تومي خريستو، مثلاً، صنايعي الشوكولاته. محمد سيد ياسين صنايعي الزجاج المضاد للكسر. صدقي سليمان صنايعي السد العالي. سعد لبيب، صنايعي تلفزيون مصر، أي مؤسسه عام 1960، يوم البث بأربع ساعات في اليوم، ولم يكن يصل إلى المحافظات. ومن عمر طاهر تعرف أن سعد لبيب كان رائد الصناعة بكل معنى الكلمة. أدرك - كما أدرك جمال عبد الناصر - أهمية هذه الوسيلة الجديدة بالنسبة إلى دولة مثل مصر. وحيث عجزت السينما عن الوصول، دخل التلفزيون ناقلاً الفن المصري والأفلام والمسرح. وقبل كل ذلك، نقل مقرئي مصر الساحرين بالصوت والصورة.
يقول عمر طاهر إن الهدف من كتابه إلقاء الضوء على مَن لم يُعطوا حقهم كاملاً من الأضواء: أنيس عبيد، صنايعي ترجمة الأفلام الأجنبية، سمعان صيدناوي (صنايعي أناقة المصريين). أبلة نظيرة، صنايعية مطبخ مصر، كلوت بك، مؤسس الطب في عموم مصر، وسناء البيسي، صنايعية الصحافة النسائية. ولعله يقصد المرأة التي تقدمت الرجال في إدارة الصحف.
أحيانا يتساءل المرء: ما الفائدة من مثل هذه الأعمال الممتعة؟ هل تردّ صفحتان في كتاب شيئاً من حق بديع خيري؟ طبعاً لا. لكنها على الأقل شهادة عابرة في قاموس عن رجل لا يعرف أحد مدى مساهمته في نجاح أشهر اسمين في تاريخ الغناء والمسرح المصري: سيد درويش ونجيب الريحاني.
وكان لأستاذ المدرسة بديع خيري، مجد آخر في فنون مصر: كان ما إن يطأ خشبة المسرح كممثل، لا تعود تتماسك نفسها، فتقهقه مع الجمهور، بينما يظل بديع خيري شارداً جامداً في دور الرجل البسيط. البسيط حتى آخر درجة عبقرية. ولم يتكرر. لا هو ولا نجيب الريحاني اللذان سماهما عمر طاهر «صنايعية الشريكين».