رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

في مكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب

عندما كانت القمم السعودية والخليجية والعربية - الإسلامية تجري مع الولايات المتحدة بالرياض، وأُعلن خلالها عن قيام وانطلاق المركز العالمي لمواجهة التطرف (اعتدال)، كان مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برئاسة الأمير تركي الفيصل، وبالتشارك مع التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب يعقد مؤتمراً ضمن أعمال منتدى الرياض لمكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب، حضره عشراتٌ من الباحثين والدارسين الأجانب، والسعوديين، وتراوحت بحوثه ونقاشاته بين الاستراتيجي والأمني والإعلامي والتواصُلي.
ولكي نأخذ فكرة عن الجلسات وأهميتها وعن المحاضرين، نذكر أنه كان بين المتحدثين أشتون كارتر وزير الدفاع الأميركي السابق، وفرانكو فراتيني وزير الخارجية الإيطالي السابق، وويليام ماكانت من بروكينغز، والسير جون جينكنز مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وريتشارد باريت من الـMI6 سابقاً؛ ومايكل هورلي من المخابرات المركزية سابقاً أيضاً. وهؤلاء الذين يمكن وضعهم في مجموعة الخبراء البارزين في شؤون الأمن الاستراتيجي، يضاف إليهم باحثون بارزون في العلاقات الدولية وشؤون العالم الإسلامي مثل إليزابيث كيندال، ولورينزو فيدينو، وبيتر نيومان، وعدة محاضرين من كينغز كوليدج بلندن، وكاثرين باور من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وقد لفتت انتباهي محاضرات ومناقشات الباحثين والمعلقين السعوديين من مثل اللواء ناصر المطيري من مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية والدكتور عبد الله بن خالد آل سعود من جامعة نايف، والدكتورة هدى الحليسي عضو مجلس الشورى السعودي؛ إضافة إلى الباحثين الشبان المتميزين من مركز الملك فيصل كسعود السرحان الأمين العام للمركز، وسمية قطاني، وفيصل أبو الحسن؛ وأخيراً الصديق نديم قطيش وهو ليس من المركز بالطبع، وإن لم تصدقوا فافحصوا الـDNA!
يعمل التحالف الإسلامي العسكري على مكافحة الإرهاب في أربعة مجالات: الآيديولوجيا، والإعلام، والتمويل، والعسكر. وقد حظيت المجالات الثلاثة الأخيرة باهتمامٍ كبيرٍ في السنوات العشر الماضية. ويمكن القول إنه في المجالات الثلاثة هناك حروبٌ مشتعلة بالفعل. ففي العسكر هناك التحالف الدولي، وإلى قتال عدة دول ضد الإرهاب من خارج التحالف. وفي الإعلام ووسائل الاتصال هناك معارك يومية تدور بين «داعش» وخصومه، وبين استخبارات الدول ووسائل المتطرفين في اجتذاب الشباب. وفي التمويل هناك الأداة الدولية التي استحدثت لقطع مصادر التمويل، لتُضاف إلى الأداة الدولية لمكافحة الجريمة المنظمة. وبخاصة أنّ الإرهاب وعصابات الإجرام صارت بينهما علائق وثيقة، وهناك من يقول: وتعاوُنٌ وثيق!
لقد انصبّت اهتمامات مؤتمر منتدى الرياض على المجالات الثلاثة. فقد خُصِّصت الجلسة الثانية لعلائق التطرف الإلكتروني بالإرهاب الواقعي. وخُصِّصت الجلسة الثالثة لروابط الاتصال بين الجريمة والإرهاب. وخُصِّصت الجلسة الرابعة للصورة الإقليمية في مواجهة الإرهاب. وحاولت الجلسة الأولى أن تكون استشرافية إذ جاءت بعنوان: «داعش النسخة الثانية ومستقبل الإرهاب». وجلسة الاستشراف هذه لافتة من حيث مدى القدرة على التوقع في التحولات التي ستُصيبُ الإرهابيين ونشاطاتهم بعد سقوط المناطق التي يسيطرون عليها الآن. وهذا موضوع خطير يهم الأوروبيين على وجه الخصوص في ظاهرة المقاتلين العائدين، وظاهرة الذئاب المنفردة. لكنّ ريتشارد باريت الذي عمل في فريق الأُمم المتحدة لمتابعة ورصد تنظيمي «القاعدة» وطالبان، ما كان على تفاؤلٍ كبير بشأن انتهاء سيطرة طالبان أو «حزب الله» أو حتى «القاعدة» على أراضٍ يمكن أن تنطلق منها أو تعطي إرشادات واستحثاثات للآخرين من هواتها وأنصارها وخلاياها النائمة. وهو يقترح أن نبحث الأمرين أو الظاهرتين باعتبارهما مختلفتين وإن لم تكونا مستقلتين. فالاستلهام شديد الأهمية والتأثير حتى على الذئاب المنفردة!
إنّ الجلسة الأُخرى التي قيلت فيها آراء بارزة على جدية سائر الجلسات، هي تلك المتعلقة بالصورة الإقليمية لمكافحة الإرهاب. وهي صورة تؤثر في واقعه كما تؤثر في مستقبله. فالولايات المتحدة مهتمة حصراً بـ«القاعدة» و«داعش»، وكانت مستعدة لغض النظر عن نشاطات إيران و«حزب الله» والحوثيين والآن الحشد الشعبي. وقد اختارت مشاركة الأكراد رغم انزعاج تركيا الشديد من ذلك. وروسيا، ورغم وجود التطرف والإرهاب من نوع «داعش» و«القاعدة» على أراضيها، لا تبدو مكافحته بالنسبة لها أولوية، بل الأولوية للعب الاستراتيجي على الساحة السورية بل والعراقية والإسرائيلية والليبية! وبعد القوتين الدولتين الكبيرتين، يذكر المحاضرون في منتدى الرياض سياسات وتقلبات لإيران وتركيا لا علاقة لها أيضاً بمكافحة الإرهاب؛ بل بالمصالح والموارد وأمن الحدود ومناطق النفوذ. وهناك شواهد قوية كما قال الباحثون أيضاً على تعاوُن كل من إيران وتركيا في السنوات الماضية مع كل من «القاعدة» و«داعش»! وقد لفتت إليزابيث كيندال في ملاحظاتها عن المشهد اليمني أنه رغم التذرر الاجتماعي والفقر المدقع؛ فإنّ الاضطراب اليمني ما كان ليتعاظم لولا التدخل الإيراني، أما «القاعدة» فما كانت لتبقى باليمن لولا لعب السلطات والقبائل معها.
لقد أفدتُ كثيراً من الجلسات الأربع، لكنني في الكلمة الختامية التي عهد إليَّ بإلقائها، أردتُ أن أعرض للجانب الفكري والديني إكمالاً للمشهد وتعميقاً لبحوثه. والجانب الديني والفكري هذا صعب ومُربك. إذ لم تبق دولة ولا مؤسسة دينية في العالمين العربي والإسلامي إلاّ وأقامت مؤتمرات وندوات وورشات عمل لمكافحة التطرف أو الإرهاب أو هما معاً. إنما مع كل عمل إرهابي جديد في أي بلد فإنّ اللوم ينصبُّ على المؤسسات الدينية أولاً، ثم على القوى الأمنية ثانياً. وعندما أُخذ على الأزهريين تقصيرهم في مكافحة الإرهاب بعد أحداث الكنائس، اعتذروا بأنّ هؤلاء الإرهابيين ليسوا أزهريين، ولا معروفين حتى بدخول المساجد وسماع الخُطَب، فكيف يمكن التأثير فيهم؟ ثم وعلى فرض سماع المتطرف لتحذيرات المؤسسات الدينية وإنذاراتها، هل تؤثر فيه وما مدى تأثيرها؟!
ومع ذلك فهناك أدلة على تطور نوعٍ من التماسك والصلابة في وجه المتطرفين. فقد أجرينا بلبنان قبل أشهر بحثاً ميدانياً باستمارة على عينة من المشايخ المتشددين، والذين كان بعضهم بسوريا، وقد أجاب خمسة وثمانون في المائة منهم أن التطرف الدافع باتجاه العنف له ثلاثة أسباب رئيسية هي: رداءة نوعية التربية الدينية أو غيابها، والمرض النفسي وقلة العقل، وتجاوزات الأجهزة الأمنية لكرامات الناس وحرياتهم. وتأتي بعد ذلك الاحتجاجات بالفقر والتهميش وإهمال السلطات، والانزعاج من طغيان الطغاة والأجانب، وما يصيب السوريين بالجوار اللبناني من تنكيلٍ وتهجير وقتل.
من هذا الاستطلاع، وأدلة أُخرى كثيرة، استنتجتُ أن الـMain Stream أو الأكثرية عادت للفعالية بعد سنواتٍ وسنواتٍ من عدم التأكد والضياع بين الإحساس بسوء المتطرفين والاستنزاف الحاصل والمتزايد. وهكذا فإنّ الكثرة الساحقة من المسلمين هي اليوم على أشد ما يكون ضد التطرف والإرهاب. ولذلك ينبغي البناءُ باتجاهين: اتجاه المضي في نقد تحويلات المفاهيم والغلو وحرمة الدم والعرض والمال وما شابه - واتجاه الإصلاح الديني. وقد كان طلابي ينزعجون من كلمة الإصلاح لأنهم يعتبرونها خاصة بالتجربة البروتستانتية. وبغضّ النظر عن صلاحية هذا المفرد أو ذاك؛ فإن المطلوب الخروج من إدخال الدين في بطن الدولة، لأنّ الدولة هي لإدارة الشأن العام، وليس لتطبيق أحكام الدين. ثم من قال إن ديننا غير مطبَّق، إذن على ماذا نحن الآن؟! وبالطبع فإنّ هذه موضوعات انتقائية وقد صار جمهورنا بعد معاناة السنوات الماضية مستعداً لسماعها ومناقشتها. وقد جرأني ذلك على الحديث عن السردية الجديدة للإسلام، وعن مثلث الضروريات العاجلة: استنقاذ الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وإصلاح العلاقة مع العالم. وفي كل ذلك نحن محتاجون لاجتماع كلمة المسلمين كما حصل في الرياض، وللتحالف الإسلامي العسكري: التماساً لعصمة الجماعة، واستعادة للثقة والفعالية.