عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الدراما والإرهاب

الإرهاب لا دين له، ولا طائفة، ولا مذهب، بل هو تشوهٌ ديني وأخلاقي وإنساني، وهو وجد من قبل في كثيرٍ من الأديان والثقافات والحضارات، هذه حقيقة يشهد بها التاريخ، وحقيقة أخرى هي أنه يكاد يكون محصوراً اليوم في جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني التي تنتسب للإسلام.
مسلسل «غرابيب سود» هذه السنة يتحدث عن إرهاب تنظيم داعش، وفضح العمل كل ممارساتهم المتوحشة وأفكارهم المنحرفة وبشاعاتهم التي يتقصدون إظهارها للعالم، فالمسلسل تناولهم من خلال حقائق ووقائع بلا تزييف، ولم يشعر القائمون على العمل وأنا أحدهم في أي لحظة بأننا بحاجة إلى أي كذبٍ أو زيادة لمجرد التشويه لتنظيم إرهابي فحسب، وكان الحرص الأكبر يصب في إطار مصداقية القصص التي ينسبها العمل للتنظيم، ولكن المشكلة الحقيقية التي واجهتنا جميعاً كانت أننا لا نستطيع وضع كل الحقائق على شاشة التلفزيون التي يتابعها الملايين من الناس.
منذ 2004 تعرف كاتب هذه السطور على كتابة السيناريو والدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الدراما في محاربة ظاهرة بحجم ظاهرة الإرهاب والتطرف، ذلك أن الأفكار التي تحملها الدراما تهدف لإيصال الرسالة لأوسع نطاقٍ من المشاهدين، فالكتاب والدراسة والبحث بل والمقالة يقرأها المتخصصون أو الجادون، ولكن الدراما تصل للجميع، ومن هنا تأتي أهمية مشاركتها في فضح التطرف والإرهاب.
«سلطة الجماهير» و«مجاهد الكيبورد» و«إرهاب أكاديمي» و«التعايش» وغيرها كتبت للمسلسل السعودي الأشهر «طاش ما طاش» الذي كان مبادراً لتناول ظاهرة بهذه الخطورة، وكانت ردة الفعل تجاهها مشجعة جداً على أن هذا النهج الدرامي الواعي بالغ الأثر في نقل الصورة للناس وشديد الوطأة على الإرهابيين والمتطرفين بحيث يجعل منهم محل سخرية وتندرٍ لدى المجتمع كما يظهر قساوة قلوبهم ونفاقهم ووحشيتهم.
ثم خرجت أعمالٌ درامية مطولة في قناة إم بي سي وقناة أبوظبي الرائدتين في هذا المجال، في مسلسل «الحور العين» ومسلسل «الطريق الوعر» في 2005 ومسلسل «دعاة على أبواب جهنم» في 2006، ومسلسل «الجماعة» الجزء الأول عن جماعة الإخوان المسلمين، وقد كان لكاتب هذه السطور شرف المساهمة في جميع هذه الأعمال إن مشاركة أو مراجعة أو إشرافاً.
هذا العام 20017 تستمر نفس القناتين في ريادتهما عبر مسلسل «غرابيب سود» الذي يعرض بوضوحٍ طبيعة الإرهاب السني ممثلاً في تنظيم داعش، كما عرضت إم بي سي حلقة في المسلسل ذائع الصيت «سيلفي 3» تحت عنوان «السوسة» تتحدث بوضوحٍ عن طبيعة الإرهاب الشيعي في المملكة العربية السعودية، وكان فريق العمل حريصاً كل الحرص على أن تكون الحلقة ذات مصداقية كاملة، وأن بشاعات الإرهاب الشيعي لا تقل عن بشاعات الإرهاب السني، وأن الإرهاب هو الإرهاب ومحاربته واجبة كيفما تشكل وكيفما تلوّن.
بخبرة تتراكم يصبح من السهل على من يخوض درامياً في هذا المجال أن يستقرئ ردود الأفعال المعارضة للعمل، وهي على درجاتٍ، فأولاً، يتم الهجوم من جماعات الإسلام السياسي ورموزها - قبل مشاهدة العمل - بأن هذا العمل يهاجم الإسلام نفسه لا ظاهرة الإرهاب، ويتناسون أنهم يجدون شبهاً كبيراً بينهم وبين الإرهابيين، ولكن عامة المسلمين لا يجدون بينهم وبين الإرهابيين أي تشابه، وإن صلوا وصاموا وكبروا وهللوا، وهذا ما حدث ويحدث مع مسلسل «غرابيب سود».
ثانياً، هذا الهجوم يتم في إطار حملة منظمة من هذه التنظيمات السرية، ومن المتعاطفين مع «داعش» أو «القاعدة» في العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا أو المتعاطفين مع «الحشد الشعبي» أو «ميليشيات الإرهاب» في العراق وسوريا أو «حزب الله» في لبنان أو الحوثي في اليمن، فكلهم يتبنون حملة منظمة للتشكيك في العمل ومحاولة الحدّ من تأثيره واتهامه بالكذب والتزوير، ويسعون جهدهم لتحويل العمل من رسالته في محاربة الإرهاب إلى أبعادٍ أصولية أو طائفية تسيطر عليهم، وهي مرفوضة جملة وتفصيلاً لدى القائمين على هذا العمل.
ثالثاً، تقوم سوق التحريض من جماعات الإسلام السياسي على قدمٍ وساقٍ على القنوات العارضة وفريق العمل، وتستجيب لها بسرعة تنظيمات الإرهاب بالتهديد المباشر بتنفيذ عملياتٍ إرهابية تطبق ما حرض به رموز التحريض، وهذا ما حدث مع هذين العملين، وإن كان أظهر حين كتابة هذا المقال تجاه مسلسل «غرابيب سود».
ثمة أمرٌ جديدٌ هذه المرة تجاه مسلسل «غرابيب سود» وهو دخول الآلة الإعلامية القطرية ضد العمل والقنوات التي تعرضه، وذلك لأكثر من سبب، منها سببان رئيسيان: أن قطر تمرّ بمرحلة عصيبة في تاريخها جرّاء سياساتها المعادية للسعودية والإمارات، وهي لم تزل عاجزة عن تبني أي استراتيجية للرد السياسي، وبالتالي وجدت من الأفضل لها مهاجمة عملٍ درامي على تحمّل تبعات موقفٍ سياسيٍ.
ومنها أن حلفاء قطر في المنطقة هم جماعة الإخوان المسلمين والنظام الإيراني، وكلاهما لا يرتضي أي عملٍ درامي يشاهده الملايين يفضح مخططاتهم وشرورهم، فعلوّ نبرة الهجوم غير المهني وغير المسؤول على العمل، إنما هو خدمة لصاحب القرار وحلفائه، حتى وإن أضر بسمعة هذه الوسائل الإعلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فرموز الإسلام السياسي ذات العلاقة الوطيدة بصانع القرار القطري تريد أن توصل له رسالة بأنها معه على طول الخط وحين تعجز عن التهجم على سياسة أوطانها خوفاً من تهمة الخيانة، فإنها تلجأ للهجوم على عملٍ درامي أو وسيلة إعلامية لإثبات الولاء والطاعة.
ولكن، هل كل من ينتقد هذين العملين هو بالضرورة ينتمي لهذه الفئات؟ سؤال مهم، والجواب بالتأكيد لا، فهناك من ينتقدهما فنياً، ومن ينتقدهما لأنه كان يريد إظهار حقائق أكثر عن بشاعة الإرهاب، وهناك من يريد التركيز على أبعادٍ معينة لم يجدها بالمستوى الذي يراه، أو لأسبابٍ أخرى شبيهة، والنقد يزيد من جودة الأعمال ويصحح الأخطاء ما لم يكن نابعاً من أجندة تختلف عن هدف هكذا أعمالٍ وهو فضح الإرهاب.
أخيراً، فالدراما هي جزء من المعركة ضد الإرهاب وليست هي المعركة نفسها، وبإمكان بعض المتطرفين المعترضين على مثل هذه الأعمال أن يحتفظوا بجزء من الأموال التي يدعمون بها نوعاً من الإرهاب، لينتجوا أعمالاً درامية بمعاييرهم ليحاربوا بها النوع الآخر من الإرهاب. ولكن الهدف الحقيقي هو محاربة كل أنواع الإرهاب.

[email protected]