ليونيد بيرشيدسكي
TT

تيريزا ماي... تنازلات على غرار النموذج النرويجي

الحجة الوحيدة اللائقة والمؤيدة لقرار رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بعدم التنحي عن منصبها، بعد الانتخابات الكارثية الأخيرة، هي تاريخ الجولة الأولى من محادثات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، المقرر انعقادها في 19 يونيو (حزيران) الحالي. وكان الوقت يمر سريعا عبر العامين الماضيين منذ 29 مارس (آذار)، عندما فعّلت السيدة ماي المادة «50». ولقد أهدرت السيدة ماي لتوها شهرين كاملين على الحملة الانتخابية الفاشلة. ومزيد من التأخير لن يكون من دون ثمن، وهناك شيء يتعلق برغبة السيدة ماي في «المضي قدما في العمل»؛ كما أن هناك إحساساً بالإحباط وربما اليأس كذلك. والقادة الأوروبيون لن يفعلوا الكثير من أجل القضاء على هذه المشاعر. إن الأمر متروك برمته للسيدة ماي لإنقاذ نفسها.
«إنجاز المهام الحكومية» صار هو الشعار الجديد بدلا من «القوة والاستقرار» الذي لم يلقَ كثير زخم في الانتخابات الأخيرة؛ لقد فقد حزب المحافظين الأغلبية، وهو مضطر الآن إلى عقد اتفاق سياسي مع حزب الاتحاد الديمقراطي اليميني في آيرلندا الشمالية حتى يتمكن من الحكم. ولكن فيما يتعلق بالخروج البريطاني، فقد تكون السيدة ماي لا تزال قادرة على الوفاء بوعدها بتحقيق «الاستقرار واليقين»؛ الأمر المفقود إلى حد كبير في سياسات المملكة المتحدة. ولا يخفى على أحد أنه ليس لدى السيدة ماي أجندة واضحة بشأن كيفية التفاوض حول الخروج البريطاني بعد الآن. ولقد تكررت عبارة «عدم وجود صفقة خير من إبرام صفقة سيئة» في خطاباتها خلال الآونة الأخيرة، وصارت جزءا من بيانات حزبها، غير أنها لم تعد ذات تأثير يُذكر بسبب أن الأحزاب الأخرى، ولا سيما حزب العمال المعارض، الذي تحسنت نتائجه في الانتخابات الأخيرة، تدعو إلى نسخة أكثر ليونة من مفاوضات الخروج البريطاني. حتى نايغل فاراج، الزعيم الأسبق لحزب الاستقلال البريطاني وأحد مهندسي التصويت على الخروج البريطاني، يتحدث في الوقت الراهن عن «التراجع» إلى صفقة على غرار النرويج التي تحفظ للمملكة المتحدة مكانها في السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي؛ وبالتالي، السماح بحرية حركة العمالة مع الاتحاد الأوروبي. والصفقة التي على غرار تركيا، والتي تبقي المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الجمركي بالاتحاد الأوروبي وخارج السوق الأوروبية المشتركة، عادت لتطل برأسها من جديد.
وبصورتها الحالية، فإن صيغة «عدم إبرام الصفقة» لن تعاني كثيرا من أجل التمرير في البرلمان البريطاني. أما السيدة روث ديفيدسون، زعيمة حزب المحافظين الاسكوتلندي، والشخصية السياسية ذات الفكر المستقل ضمن حزب السيدة ماي والتي حققت بالفعل قدرا من النجاح في الانتخابات الأخيرة، ووجهت ضربة قوية ضد القوميين الاسكوتلنديين المناهضين للخروج البريطاني، فليس من المرجح أن تقرض دعم جماعتها البرلمانية ذات الـ13 عضوا إلى الصقور المتشددين في البرلمان؛ فإنهم لا يتمتعون بأي شعبية في اسكوتلندا. ولقد دعت السيدة ديفيدسون إلى «خروج بريطاني مفتوح، وليس منغلقا، من الاتحاد الأوروبي».
ويعد حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو آخر شريك للسيدة ماي في الائتلاف الحاكم، من المؤيدين للخروج البريطاني، ولكن البيان الحزبي أكد دعمه الحدود الناعمة مع جمهورية آيرلندا. وبما أن آيرلندا الشمالية، التي صوتت ضد الخروج البريطاني العام الماضي، من أكبر المستفيدين من إعانات الاتحاد الأوروبي، فسوف يفضل حزب الاتحاد الديمقراطي «المقدرة على الاستفادة من أموال الاتحاد الأوروبي في المواضع التي أثبتت فعاليتها وكفاءتها وقيمتها المضافة». ولا شيء من هذا يبدو ممكنا مع الخروج البريطاني العسير.
يبدو أو السيدة ماي تدرك أنه يتعين عليها أن تكون أكثر استيعابا خلال المفاوضات الآن، على الرغم من إعادة تعيين أغلب وزرائها القدامى في مناصبهم، وإعادة مايكل غوف، المؤيد القوي للخروج البريطاني، في دور غير مهم نسبيا وزيرا للبيئة، كما أنها جعلت من السيد داميان غرين، الحليف القديم والمؤيد المفوه للبقاء ضمن عضوية الاتحاد، الثاني في القيادة بتولي منصب وزير دولة في الحكومة الجديدة.
وفي الأثناء ذاتها، ليس هناك من سبب يدعو قادة الاتحاد الأوروبي لأن يجعلوا الأمور أسهل على السيدة ماي. وحتى الآن، كانت الفوضى المرتبطة بالخروج البريطاني قد ساعدت السياسيين الموالين للاتحاد الأوروبي على توجيه ضربات قوية ضد القوميين الشعبويين في دول أوروبا الغربية الكبرى. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حقق حزبه الجديد انتصارا تاريخيا جديدا في الانتخابات التشريعية الفرنسية، والسيدة أنجيلا ميركل، التي تتصدر استطلاعات الرأي الألمانية ومن المرجح أن يُعاد انتخابها في منصبها في سبتمبر (أيلول) المقبل، لديهما الصلاحيات القوية واللازمة للمعركة التفاوضية المقبلة. وإذا ما استمر الأمر على منواله، فمن المحتمل أن يعزز فرص فوز الساسة الحاكمين من تيار الوسط في إيطاليا في مواجهة حركة «فايف ستار» الشعبوية المناهضة للاتحاد الأوروبي خلال الانتخابات المقبلة، تماما كما فعلوا في الانتخابات المحلية التي أجريت يوم الأحد الماضي.
ولذلك، فإن الاستراتيجية المبدئية، التي تدور حول شراء مزيد من الوقت وترك المملكة المتحدة لنفسها، تبدو أفضل كثيرا من أي وقت مضى فيما بعد الانتخابات البريطانية الأخيرة. وليس الأمر مهماً في واقعه للمفاوضين الأوروبيين الذين يجلسون على الطرف الآخر من الطاولة؛ سواء كانت السيدة ماي، أو خصمها المنتصر والمفاجئ جيريمي كوربن، أو أي سياسي آخر.
ويرجع الأمر للسيدة ماي للبدء في صياغة النسخة الأكثر ليونة من مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وإن فعلت ذلك، فإن تصورات القادة الأوروبيين من حيث رفض منهجها سيعود بنتائج رهيبة. وسوف يتجنب القادة الأوروبيون - البيروقراطيون في بروكسل تحت قيادة رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر - أن يظهروا بمظهر التشفي من خسارة السيدة ماي الأخيرة. والسعي وراء الحل الوسط، بعد كل شيء، هو ما تحاول أوروبا فعله بشكل افتراضي، وهو ما تفعله بصورة أفضل. وردود الفعل الداخلية في حزبها من المسائل المختلفة تماما.
ومن أسوأ الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها السيدة ماي الاستمرار في التظاهر بأنها تملك الصوت الأقوى في المفاوضات. فمن شأن ذلك أن يدفع بالاتحاد الأوروبي إلى فقدان الاهتمام والتراجع، مما يجعلها تفشل. وينتظر أن تخرج له العملية السياسية البريطانية بشريك تفاوضي جديد، مع القليل من الوقت المتاح لاستكمال المحادثات. ويؤدي الوجود القوي لمؤيدي الخروج البريطاني في مجلس وزراء السيدة ماي، إلى جعل هذا السيناريو أكثر احتمالا، ولكن لم يفت الأوان تماما على السيدة ماي لمحاولة تفادي ذلك، والتوصل إلى بعض التنازلات على غرار النموذج النرويجي أو النموذج التركي على طاولة المفاوضات.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»