سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صاحب المكتبة... لا صاحب الكتاب: درج المرّ

كانت لي مودات كثيرة مع المكتبات وأصحابها. ليس بينها مكتبة كبرى واحدة. ففي المكتبات الكبرى تطرح سؤالك على «الكومبيوتر»، لا على الرجل الذي أمضى عمراً في رعاية المكتبة والكتب. وأحياناً، ورثها عن أبيه، وورث معها عراقة السنين وقوة الألفة ونعمة الخبرات.
ومن «غرائب» بيروت، وربما كان ذلك في مدن عربية أخرى، أن أول مكتبة داومت عليها كانت مجانية. كانت عبارة عن درج طويل في مبنى قديم من مباني ساحة البرج. تعرض القليل من الكتب وجميع المجلات والصحف بالعربية والفرنسية. تدخل وتقرأ، واقفاً، ما استطعت القراءة والوقوف. كل ما هو مطلوب منك أن تلقي التحية على أحد الأخوان المرّ، أصحاب المكتبة. في الخروج، لا ضرورة للتحية؛ لأن أحدهم منهمك في استقبال «زبون» آخر. فإذا اشتريت شيئاً، فمرحباً، وإذا كنت طفراناً، فمرحباً.
أُغلِقت ساحة البرج، وأُغلقت «مكتبة المرّ» قبل أن يتسنى لي أن أسأل، من أين كان يعيش الأخوان المرّ، ما دامت كل بيروت تقرأ صحفها ومجلاتها، وأحياناً كتبها، في ذلك الممر، من دون أن يخطر لأحد، إلا نادراً، أن القراءة أيضا لها ثمن.
لكن تلك لم تكن «مكتبة المرّ» فقط، بل كانت بيروت كلها. أصدقاء، لا زبائن. ورفاق، ليس في الأحزاب، بل في المدينة. والمدينة كانت عبارة عن قرية كبيرة، الناس يعرف بعضهم وجوه بعض، ويتبادلون التحيات، ويركبون نفس «الترامواي»، ويشترون الثياب المتواضعة من المخازن نفسها. ليس بالضرورة بالأسعار نفسها. فإذا كنت لبنانياً أصيلاً، مهارتك مهارة البائع: «فرقت» معك على الأقل خمس ليرات. هل تدري ماذا كانت تشتري الخمس ليرات لك (أو لغيرك) أوائل الستينات؟ دعك من وجع القلب.
لم تتكرر تجربة مكتبة، أو درج المرّ. لا في الزمان ولا في المكان. لكن فوضى القراءة انتقلت إلى مكتبة «بيسان» في الحمراء. حيث الكتب على الرفوف وعلى الأرض وفي المطبخ. ويعرف عيسى، صاحب المكتبة، مكان كل كتاب. وما لا تجده على الرفوف أو على الأرض يكون في المستودع القريب. وعندما يكون عيسى غائباً، يكون حاضراً شقيقه مالك، أو زوجته وابنته. «بيسان» مسألة عائلية كما ينبغي. والآن تتطور إلى دار نشر. ولا أعرف أين سيعثر عيسى على مكان للمنشورات الجديدة.
وألقى المشهد نفسه، ولكن ليس المعاملة نفسها، في «شكسبير آند كومباني» في باريس. وهي مكتبة صغيرة أسست أوائل القرن الماضي لفقراء الكتّاب - الذين أصبحوا أغناهم بعد وفاتهم - مثل جيمس جويس. وأصبحت المكتبة مثل مَعلم سياحي، معظم زبائنها مثل زبائن «درج المرّ، لا يشترون. وإذا اشتروا، فكتاب قديم من الكتب المعروضة في الخارج، عندما لا تكون سماء باريس ماطرة. وكل من يشتري كتاباً له مكافأة، هي عبارة عن ختم «شكسبير آند كو». إذا كنت لا تزال شاباً، لا بأس بهذه الإفادة على أنك مررت في باريس.