إميل أمين
كاتب مصري
TT

مقابلة مع القيصر بوتين

ربما لم ينشغل العالم شرقاً وغرباً بزعيم روسي منذ خروشوف مثلما انشغل الجميع بفلاديمير بوتين، الذي يُنظر إليه في روسيا اليوم بوصفه «رئيساً بمواصفات القيصر».
لم ينقطع الحديث عن بوتين الذي أضحى رقماً صعباً في المعادلة الدولية العقدين الماضيين، غير أن الفيلم الذي أنتجه له المخرج الأميركي الشهير أوليفر ستون، وأذيع الأيام القليلة الماضية تحت عنوان «مقابلة بوتين»، أعاد رجل روسيا القوي إلى دائرة الأضواء بقوة، لا سيما أن المخرج الأميركي، لم يقدر أن يكون محايداً ولم يُخفِ إعجابه الشديد بشخصية بوتين.
السؤال الجوهري: «كيف لمخرج أميركي كبير قادم من قلب الليبرالية الأممية، وممثلاً للعولمة الكونية أن ينبهر برجل يصفه الإعلام الأميركي صباح مساء كل يوم بأنه ديكتاتور شمولي؟» ثم لك أن تزيد أن بوتين متهم بالتدخل في الشأن الأميركي الداخلي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فهل ستون مصاب بما يمكن أن نطلق عليه «البوتينومانية» أي الإعجاب ببوتين إلى حد الهوس؟
الشاهد أن المسألة أعمق من الطروحات الإعلامية الأميركية الضحلة، فما فعله بوتين خلال عقدين لبلاده هو ما يدهش الجميع أميركيين وأوروبيين سواء اتفقوا أو افترقوا مع سياساته، فقد مَثَّل رجل «كي جي بي» الشهير «طائر الفينيق» لبلاده، ولروسيا القيصرية خاصة.
أهمية حوار فيلم ستون الذي عرض في الفترة من 12 إلى 15 يونيو (حزيران) الحالي على قناة «شوتايم» التلفزيونية كي يصل لغالبية، إن لم يكن كل الأميركيين، تكمن في أن كل كلمة تفوَّه بها الرجل تفكّ لنا شفرات السياسة الدولية ما ظهر منها وما بطن، وجيد لنا في العالم العربي تحليلها ومحاولة فهمها، حتى يتسنى لنا إدراك صراع الأقطاب القائمة والقادمة.
يستلفت النظر في نجاحات بوتين فكرة تعاضده مع شعبه، ومعاً حول الإرث الأخلاقي والتاريخي لبلاده الذي تعرض لمذلة ومهانة غداة تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق، وعليه يقول بوتين إن شعبه لا يمكن أن يحيا في بلد مسلوب السيادة والاستقلال.
يدرك بوتين جيداً أن زمن المواجهات العسكرية يكاد يكون قد ولَّى، رغم أنه جدد قوة بلاده العسكرية من حيث الكفاءات البشرية، والتسليح والعتاد، لكنه واثق بأن الغرب لن يقدم على مواجهته إلا من خلال الضغوط الاقتصادية القاتلة، وإن كان هدفها النهائي تغيير السلطة في روسيا، وتسكين أحد رجالات الأوليغاركية الروسية الذين يدورون في فلك جماعات «الكومبرادورية» التقليدية، التابعين للرأسمالية ثلاثية الأضلاع دائماً وأبداً.
بوتين سواء أحببناه أو كرهناه في العالم العربي يقتضي منا نظرة موضوعية عندما يتحدث عن التغيير وحتميته من جهة، والمخاوف المترتبة على تحريك الماء الراكد من ناحية أخرى.
يقر بوتين في حواره التلفزيوني الأخير بأن الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية كانت تالفة بالفعل، بل يوجِّه أصابع الاتهام إلى قادة مجلس السوفيات الأعلى «بوصفهم مَن أوصلوا البلاد إلى حالة الانحدار ثم الانهيار وما تبعها من انحلال كارثي، وعليه فإنه يدرك أن التغيير كان مطلوباً بالفعل، لكن يعيب على غورباتشوف الخطأ في تقدير طبيعة التغيير المطلوب للبلاد، الأمر الذي سبب لـ25 مليون روسي حالة من الضياع القومي، بعد أن استيقظوا ليجدوا أنفسهم في دول وليدة، ما كاد يسبب حرباً أهلية في روسيا».
نقطة جوهرية أخرى يميط بوتين عنها اللثام وتهمنا بنوع خاص في الشرق الأوسط، في حاضرات أيامنا؛ إنها تلك المتصلة بالدور الأميركي في مواجهة الإرهاب حول العالم.
يجابه بوتين الأميركيين، ويكاد يصدم الرأي العام هناك، بالقول إن واشنطن تدعي في العلن مساندة روسيا في حربها مع الإرهاب، وفي الخفاء تستغل الإرهابيين من أجل زعزعة الوضع الداخلي في روسيا، وخارجها، والشيشان مثال... «لقد أبرزنا لهم أدلة دافعة وملموسة على دعمهم للإرهابيين خلال عملية القوات الفيدرالية في الشيشان»، يضيف بوتين.
هل «مقابلة بوتين» ضرب من ضروب المصارحة والمكاشفة مع الغرب تعقبها عملية إعادة بناء لعلاقات تمر بمرحلة سيئة، لا سيما مع واشنطن، رغم المحاولات المضنية التي يقوم بها الرئيس ترمب لتصويب المسار من البيت الأبيض إلى الكرملين؟
بحسب المخرج الأميركي صاحب جوائز الأوسكار الثلاث، حتماً سوف تؤدي الحوارات الأخيرة إلى فتح دروب مناقشات حول أشكال وأبعاد العلاقات الدولية، فبوتين يضع الجميع أمام الحقيقة عارية، دون غطاءات من الزيف الآيديولوجي، إن جاز التعبير.
يطرح بوتين سؤالاً محورياً... لم تعد هناك كتلة شرقية ولا اتحاد سوفياتي، ولهذا لماذا يبقى الناتو قائماً؟
عقلية بوتين الإدراكية تفهم فكرة «العدو الجيد»، الذي لا بد من خلقه إن لم يكن قائماً بالفعل، لتبرير وتفسير مصالح وأهداف استراتيجية كبرى، وبقاء روسيا عدواً مشيطَناً يعني استمرار دوائر العولمة الفكرية التي تصب جام غضبها على الروس، ويبرر بقاءها والإنفاق عليها، كما في مراكز الفكر الغربية.
استمرار صحوة روسيا يزخم دعاة العولمة المنفلتة ومَن يقف وراءها من مجمعات تجاوزت المجمع الصناعي العسكري إلى مجمعات «وول ستريت» المالية، وجماعات النفط، والثروات الطبيعية، والأخيرة تقودنا، ولا شك، إلى أحاديث عن الصراعات القادمة حول ثروات القطب الشمالي بنوع خاص، بين الأميركيين والروس، وما في باطنه من كنوز تغير مسارات اقتصادية كبرى.
«مقابلة بوتين» عمل يستحق القراءة والتحليل، لا سيما بالنسبة لرجل يسعى الروسي اليوم معه وبه إلى عودة النشيد الوطني الروسي قبل ثورة 1917 «فليحفظ الله القيصر».