رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

برج البؤس أنار لندن بـ«شموع بشرية»

لندن تكتسي ثوب الحداد، بعد أن عاود الموت مباغتتها خلسة بعمل إرهابي من نوع آخر لا يشبه ما حصل في مانشستر ولندن بريدج، بل جاء مقنّعا بنيران حارقة تظهر استهتارا بحياة الفقراء، ليقتحم سكينة عائلات تنام هانئة في منازل كان لا بدّ أن تكون المكان الأكثر أمانا لها، وليسرق بخسة أرواح أناس استسلموا غصبا للموت.
في القرن الـ21 حدثٌ يهزّ واحدة من أهم وأغنى عواصم العالم، نيران تستعر ملتهمة مبنى سكنيا يتألف من 27 طابقا، حيث يقطن أجانب لجأوا إلى بريطانيا هربا من الحروب في بلدانهم بحثا عن بقعة أرض يعيشون فيها مع أولادهم بسلام.
يلخبط الحزن الأفكار أحياناً، فتتولّد متسارعة متصارعة للتعبير عن غضب أو تعاطف مع حالة مأساوية يرفض المرء تقبلها، وشعوب الشرق الأوسط، من أكثر الشعوب انجرافا وراء العاطفة، وربما كان هذا الاندفاع من أسباب فشلنا في إدارة أمور كثيرة بحياتنا اليومية. منذ أمس وأنا أحاول أن أرسو على فكرة أُخرج بها حزني بكلمات أرتبها في مدونة تعبر تارة عن غضبي وتارة عن ظلم الحياة للفقراء تحديدا، وكأن المصائب تنتقي من كان أكثر تعبا لتصب جام غضبها عليه، حزني على العائلات التي قضت حرقا، أو أولئك الذين شهدوا المأساة وخسروا أقارب لهم أو أرواحا ساهموا في ولادتها.
لا يهم كيف اشتعلت النيران فقد تقع المصائب في أي بقعة من بقاع الأرض متقدمة كانت أم لا، بيد أنّ الفرق يكمن في كيفية التصدي لها ومعالجتها، وما حصل في برج غرينفيل بشمال كينسينغتون غرب العاصمة لندن، يطرح تساؤلات قد تأتي الإجابات عنها خطيرة في دولة كبريطانيا. فحسب سكان المبنى وما كتبت الصحف المحلية، لم تكن أجهزة الإنذار تعمل في المبنى، واستيقظ الأهالي على أصوات الصراخ ورائحة الدخان التي عبقت فيه، والإنذار الوحيد جاءهم من جيران حاولوا طرق أبوابهم. فيما ساهمت النصائح التي أسديت للسكان بالتزام منازلهم لدى نشوب الحريق، في موت عدد أكبر منهم.
تعتبر كينسينغتون من الأماكن الثرية في العاصمة البريطانية، والبرج المنتصب وسطها يحوي بغالبيته عائلات مهاجرة وفقيرة، وقد دفع مظهره الخارجي الذي لا يتلاءم والمنازل المحيطة به، البلدية إلى إجراء عمليات تجديد ركّزت في الدرجة الأولى على كسوة البرج الخارجية لتتناسب ومستوى المنطقة، أكثر من الاهتمام بتوفير معايير السلامة الداخلية للمبنى، مستخدمة مواد لم تعد تعتمد في دول متطورة كبريطانيا، بل يعتبر استخدامها خرقا لقوانين السلامة من الحرائق وهي شائعة في الشرق الأوسط والصين.
وقد شهد المبنى الذي بني عام 1974، عملية تجديد، أبدلت خلالها الأبواب المقاومة للنيران بأخرى غير عازلة، أمّا الكسوة التي أضيفت إلى الواجهات الخارجية للبرج عام 2016 فقد تكون السبب المباشر في الانتشار السريع للحريق، فالنيران التي اشتعلت في الطابق الرابع تصاعدت خلال 15 دقيقة إلى الطابق الـ24، وللمبنى مخرج واحد في حال نشوب حريق، كما أنّه لم يكن مجهزا بنظام رش المياه تلقائيا، وعلى الرغم من جميع التحذيرات من مخاطر تعرض الأبراج السكينة في لندن للحرائق، فإنّ الحكومة لم تعر الأمر اهتماما.
نعم نحن في بريطانيا العظمى التي آمنت بعد حروبها الأهلية والحربين العالميتين، بأنّ الإنسان رأسمالها الأول والأهم، بمختلف طبقاته الاجتماعية وتعدد انتماءاته ودياناته وقومياته. نحن في مملكة كانت سباقة في تنقيح نظامها بقوانين إنسانية رسختها عبر العصور الثورات التاريخية بدءا من «الثورة المجيدة» عام 1688 التي شهدتها الجزيرة إلى الثورة الأميركية ومن ثمّ الفرنسية والبولشفية، لذا خرج المواطنون البريطانيون أمس، إلى الشوارع احتجاجا، مطالبين بمزيد من الدعم لضحايا الحريق الهائل الذي أدى إلى فقدان 70 شخصا على الأقل، صرّحت الشرطة أنّ 30 من بينهم تأكد مقتلهم، وأن حصيلة الضحايا مرشحة للارتفاع.
نحن في بريطانيا العظمى حيث يعتبر الاستهتار بحقوق الفقراء وسلامتهم عارا في دولة تحكمها القوانين بشكل جيد، ولا تصلح المقارنة بينها وبين أي دولة من دول العالم الثالث أو أي دولة فقيرة في العالم، واللوم الشعبي البريطاني يلقي بالمسؤولية على الحكومة الحالية ويتهمها بالتقاعس عن القيام بواجباتها والاهتمام بحقوق الفقراء ومساعدتهم.