خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

كاثرين العظمى والعقلانية

اسمان يتألقان في تاريخ روسيا وتطورها: بطرس الأكبر وكاثرين العظمى. لهما يعود الفضل في إخراج روسيا من تخلفها، ثم تطورها إلى ما هي عليه الآن. بيد أن القيصرة كاثرين تنال تقديراً أكبر بسبب كونها امرأة أجنبية من ألمانيا. دخلت روسيا بزواجها من القيصر. نظرت فرأت ما كانت عليه روسيا من تخلف، فعقدت العزم على تطويرها. لم تكن أميرة ألمانية فقط بل كانت متشربة بروح العقلانية التي سادت فرنسا في القرن الثامن عشر، روسو وديدرو وفولتير ومن لف لفهم.
بدأت مشوارها بالتخلص من زوجها، القيصر المتخلف. دبرت مقتله واستأثرت بالحكم كقيصر. غير أن طريقها كان شائكاً. كانت أولاً امرأة، وامرأة أجنبية، في زمن كان الروس يعتبرون النساء مخلوقات ثانوية. كان عليها أن تثبت أولاً جدارتها كقيصر، وكانت جدارة القيصر تثبت بالانتصارات العسكرية، وبصورة خاصة الانتصارات البحرية. فالسيطرة على البحار كانت معيار الدول الإمبراطورية. هكذا فعلت بريطانيا، ولكن لم يكن لروسيا غير أسطول صغير جالس على ساحل بحر البلطيق شمالاً.
بدأت أولاً مشوارها العسكري بإعلان الحرب على تركيا، ولكن هذه الحرب وصلت إلى مرحلة جامدة. كان عليها أن تتحدى تركيا بالانتصار عليها بحراً. أوعزت لأسطول البلطيق بأن يبحر إلى البحر المتوسط، ويتحدى الأسطول العثماني في عقر داره. استغرقت السفرة نحو سنة كاملة، قبل أن يجد الأسطول العثماني جاثماً في خليج تشسما. اشتبك الأسطولان عام 1770 في معركة دامية انتهت بسحق السفن العثمانية ومقتل 90 ألف بحار تركي مقابل ثلاثين بحارا روسيا فقط.
نصر مبين يعتز به الرجال، ناهيك عن امرأة تخوض معركة بحرية، أثبتت بها جدارتها في الحكم. بيد أن معركتها الأساسية كانت في فرض العقلانية على الروس. كانت محنتهم في النظام الإقطاعي الاستعبادي. لم تجرؤ على تحدي هذا النظام المستحكم. جلست تنتظر فرصة أخرى لإثبات جدارة العلم والعقل. سنحت الفرصة عندما اكتسح روسيا وباء الجدري، وراح الناس يهلكون بالألوف هلاكاً مريراً. أخبرها مستشاروها بأن طبيباً إنجليزياً باسم توماس دمسدل اكتشف طريقة لدحر مرض الجدري وصيانة البشر من أثره.
كتبت القيصرة كاثرين إلى سفيرها في لندن، وطلبت منه أن يحقق في الموضوع، وجاءها الجواب الإيجابي، نعم، ولكن الناس ما زالوا يتشككون بهذا الموضوع ويتخوف الأطباء من استعماله؛ فهو يعتمد على جرح ذراع الإنسان، ثم تغذية الجرح بمصل مكروبات المرض. طريقة خطيرة يتحاشاها بقية الأطباء.
عادت القيصرة فكتبت للسفير أن يدعو الدكتور دمسدل لزيارة موسكو وتجربة طريقته، بيد أن دمسدل تخوف هو كذلك من الفكرة. رفض المجيء. عادت فكتبت للسفير أن يأتيها من الدكتور بعينة من المصل ويبعث بها إليها. من يعلق الجرس؟ كما يقال. بمن يجربون الطريقة؟ تخوف القوم من الأمر. ولكن كاثرين رأت في الأمر امتحاناً لها في ادعائها بالعلم والعقل، وبالتالي كسب ثقة الجمهور بنحو مهيب. مدت ذراعها وقالت لأحد الأطباء: هيا. اضرب! فعل ما أمرت به ومسك القوم أنفاسهم، ولكن القيصرة لم تمت. نجحت التجربة وأصبحت كاثرين، كاثرين العظمى بحق وجدارة.