ليونيد بيرشيدسكي
TT

أنجيلا ميركل واللعب على حبل القومية

هناك بعض النقاط التاريخية التي تتيح للزعيم المقدرة على تحديد ما يعنيه بالانتماء إلى بلد أو ثقافة بعينها. وفي عام 2017، يبدو أن هناك عدداً قليلاً من البلدان في حاجة إلى مثل هذه التذكرة التاريخية. ولقد حاولت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفق تدابير متوازنة من الرعونة والجدية، تحديد ما يعنيه أن تكون مواطناً ألمانيّاً.
وجاء تعريفها، الذي نشر في صحيفة «بيلد» يوم الخميس الماضي، متخذاً صورة المسرد الأبجدي لبعض الأشياء والأفكار التي تعتبرها ألمانية من الناحية الجوهرية.
وبعض من المدخلات المذكورة مفعمة بالجدية والرصانة، مثل المسؤولية الألمانية الجادة عن المحرقة، أو الفقرة الأولى من المادة الأولى من الدستور الألماني (والذي ينص على حرمة الكرامة الإنسانية). وبعض المدخلات الأخرى ملتوية بعض الشيء: مثل التلميحات الكرنفالية والتحيات التقليدية مثل «هيلاو» و«آلاف». وبعض من المدخلات يتسق مع ما يعتبره العالم مرتبطا بالشعب الألماني وتقاليده: مثل «الالتزام بالمواعيد»، و«العمل الدقيق»، و«النقانق الألمانية»، و«النظام»، و«مهرجان أكتوبرفيست»، و«مهرجان فاغنر الموسيقي السنوي». وبعض من المدخلات تشير إلى التقاليد غير المعروفة بالقدر الكافي: مثل «التفاوض الجماعي»، و«الغناء الكورالي»، و«ضرائب الكنيسة». ثم هناك التصنيف المتعلق بالفخر الوطني: «النجم الرابع» لكأس العالم الرابع لكرة القدم في ألمانيا، و«بطل العالم في الصادرات».
وهذا بطبيعة الحال من وسائل التحايل خلال الحملات الانتخابية. فخلال حملة عام 2013، ظهر شريط فيديو ذائع الانتشار تبدو فيه ميركل وهي تأخذ العلم الألماني بغضب من أحد أعضاء حزبها عندما كان يحاول التلويح به بجانبها. وخلال العام الحالي، عادت الأعلام الألمانية من جديد، وجاء ذكر ألوان العلم الألماني على أجندة ميركل السياسية. فإن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي يحاول استعادة القاعدة الشعبية الوطنية من حركة «البديل الألماني» الشعبوية. ولقد نشر وزير الداخلية توماس دي مايزير، حليف ميركل، الملامح العشرة الرئيسية للثقافة التوجيهية الألمانية في أبريل (نيسان) الماضي، ولقد اشتملت على ذكر الديانة المسيحية ولم تعطف على ذكر الديانات الأخرى؛ إذ إن التقليد اليهودي المسيحي له ذكر بارز في قائمة ميركل كذلك.
لكن، لكل من يعتقد أن ميركل نادمة على السماح لأكثر من مليون لاجئ بالدخول والاستقرار في البلاد بين عامي 2015 و2016، فإن القائمة الألمانية تضم أيضا «المسلمين» و«الأصول المهاجرة» - وهو ما تمثله نسبة 21 في المائة من سكان ألمانيا في الوقت الراهن. وفي هذا الصدد، فإن ميركل تردد صدى خطاب الحملة الانتخابية الذي تلاه الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون في مارسيليا، وفيه أكد على ارتكاز الهوية الوطنية الفرنسية على تنوع المهاجرين من: «الأرمن، وجزر القمر، والإيطاليين، والجزائريين، والمغاربة، والتونسيين، والماليزيين، والسنغاليين، ومن ساحل العاج». ولقد ارتقى الأمر إلى مستوى التحدي لمنافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان في ذلك الوقت.
والزاوية التي ينظر من خلالها هذان الزعيمان إلى الهوية الوطنية هي أبعد ما تكون عن شعارات التنوع، والتعدد الثقافي، والفيدرالية فوق الوطنية. إنهما يتحدثان في الأصل حول الثقافة القديمة وعميقة الجذور التي تتبدى في صور جديدة ومختلفة من دون الابتعاد كثيرا عن التيار التقليدي المعروف. إنها تبدو تقدمية بعض الشيء مقارنة بالبدائل المطروحة — على سبيل المثال، خطابات لوبان الرنانة أو غيرها من القوميين الشعبويين في مختلف أرجاء أوروبا.
في الوقت نفسه، يشبه الأمر إلى حد ما رؤية الهوية الوطنية الروسية التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين في مقال نشر عام 2012؛ إذ وصف روسيا العرقية والثقافة الروسية بأنها «نسيج ملزم» للمجتمع التاريخي متعدد الأعراق. ولقد اقتبس بوتين مقولة إيفان إيلين، الفيلسوف المفضل عنده، والذي يعتبره الكثيرون من أوائل الذين ناقشوا الآيديولوجية الفاشية (على الرغم من مشكلاته مع النظام النازي في ألمانيا): «لا نهدف للقضاء على أحد، أو القمع، أو استعباد الشعوب الخارجية، ولا نهدف إلى خنق الحياة الخارجية غير الأرثوذكسية، ولكن أن نترك الجميع يتنفسون، ونمنحهم دولة ووطناً كبيراً، ونرعى ونعتني بالجميع، ونصنع السلام، ونترك للجميع حرية ممارسة العقائد، ومشاركة الأفضل من كل مكان في بناء الدولة والثقافة».
ولقد نجحت النسخة «البوتينية» من القومية المعتدلة، والتي يرحب فيها بالجميع ضمن نسيج «الثقافة الرائدة» والاستيعاب التام غير ضروري طالما أنك منخرط في جهود «بناء الدولة». وأغلب الناس الذين أعرفهم هناك، وحتى أولئك الذين لا يحبون فلاديمير بوتين، يتقاسمون هذه الرؤية مع اختلافات طفيفة. لكنني على دراية أيضاً بمخاطر وقوع السياسيين في فخ الهوية الثقافية. بعد فترة من الوقت، يمكن أن تتحول فكرة الثقافة المرحبة والمهيمنة إلى أشكال وأنماط أكثر قبحاً وقتامة، كما كان الحال بالنسبة لروسيا عندما دخلت في حرب مفتوحة ضد أوكرانيا، الدولة ذات الهوية المماثلة، وكانت المتميزة من حيث إنها لا ترغب في الانضواء تحت العباءة الروسية الواسعة.
ولا أتوقع من ميركل أو ماكرون أن يحاولا غزو الدول المجاورة. ولكن باعتبار ألمانيا وفرنسا من الدول الأعضاء الأساسية في الاتحاد الأوروبي، فهما يحظيان بوضع خاص يمنحهما مجالاً كبيراً من النفوذ والتأثير على كتلة كبيرة من الدول المختلفة والمتنوعة بشكل كبير. إن التلويح بالعلم ليس إلا مجرد تلويح بالعلم، ورغم ذلك يسهل إدراك ضرورة وجود نوع من النزعة القومية للفوز في انتخابات العام الحالي، ويمكن أن يتطور الأمر إلى درجة من الحزم والصرامة الشديدة التي نشأ الاتحاد الأوروبي في الأساس للقضاء عليها. وهذا هو السبب في التساؤل حول أي جزء من هذا المسرد الأبجدي هو الأحق بالأهمية من وجهة نظر ميركل — هل الأجزاء الخاصة بالاستيعاب والانفتاح أم الأجزاء المتعلقة بالتقاليد والهوية. إن سجلها السياسي السابق يقول إنها أكثر ميلاً للاستيعاب والانفتاح. ولكن هل يمكن أن يكون الجزء الأخير هو الأكثر أهمية في عام 2017 الحالي، وليس فقط لأسباب تتعلق بالانتخابات؟
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»