إميل أمين
كاتب مصري
TT

الأزمة القطرية... لا للحياد

يكاد المرء يحار من موقف بعض الدول الأوروبية تجاه الأزمة القطرية، حيث إنه يتسم بالحياد غير الإيجابي وغير الخلاق، إذ تصر بروكسل على البقاء في المنطقة الرمادية، في ازدواجية لا تقل عن نظيرتها الأميركية التقليدية، وفي وقت لا بد فيه من أن تختار مرفأ لسياساتها وتوجهاتها السياسية.
تدرك الحكومات الأوروبية عطفاً على أجهزتها الاستخباراتية حال ومآل الدور القطري في تمويل جماعات إرهابية راديكالية بعضها يقع في قلب أوروبا ذاتها، ومع ذلك يسود البرود القاتل مشهد العواصم الأوروبية، وكأن العمليات الإرهابية التي جرت على أراضيها خلفت ماء لا دماء.
منذ بداية الأزمة ومقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر للدوحة، بدت بعض دول أوروبا وكأنها تحاول جاهدة الإمساك بالعصا من المنتصف، فهي من جهة لا تريد أن تتنكر لمرتكزاتها الرئيسية التي قامت عليها حضارتها، من حريات وحمايتها، وحقوق إنسان وصيانتها، ورفض للدوغمائيات الظلامية وكارثيتها.
لكن على الجانب الآخر من نهر الحياة، لا تريد أن تفقد مليارات قطر المشبوهة، التي وجدت طريقها للاستثمار في الدول الغربية، تلك التي ضربتها الهزات الاقتصادية بدءاً من عام 2007 حتى الساعة.
هل بروكسل مرتهنة لقطر اليوم، ولهذا تمضي في طريق الحياد غير الخلاق؟
ربما يتوجب علينا تفكيك هذا المشهد، ولنكتف بثلاث عواصم تمثل أعمدة الخيمة الأوروبية: لندن وبرلين وباريس. ماذا عن كل واحدة منها؟
يمكن القطع بأن لندن هي أكثر عواصم أوروبا ارتباطاً بجماعات الإسلام السياسي، إلى الحد الذي دفع كاتباً وباحثاً شهيراً مثل مارك كورتيس، لأن يطلق عليها «لندنستان» من جراء ارتباطها بالإسلامويين من مختلف الدرجات والجنسيات، ولهذا فإن الموقف البريطاني من الأزمة القطرية، يتجاوز مسألة الارتباط الاقتصادي والمالي واستثمارات قطر، وصولاً إلى علاقة عضوية لها خلفيات استراتيجية سياسية وعسكرية شديدة التعقيد، ووراءها قصة إمبراطورية أفلت عنها الشمس، وتحاول استخدام تلك الجماعات كمخلب قط في الشرق الأوسط والخليج العربي لتعويض خسائرها.
في هذا الإطار لا يتوقع المرء من لندن موقفاً حاسماً جازماً، رغم الدماء البريطانية التي سالت على جسورها مؤخراً.
هذا التهافت لا يوفر ألمانيا صاحبة التصريحات المثيرة للتأمل والحنق أحياناً، سيما تصريحات زيغمار غابرييل وزير الخارجية، الذي حدثنا بدوره عن العقلانية والحيادية واللجوء إلى الحوار، بل إن بعض وسائل الإعلام الألمانية تكاد تلقي بتبعات الأزمة على الرئيس ترمب في مغالطة واضحة وفاضحة، ذلك أن مواقف قطر سابقة على وصول ترمب للبيت الأبيض، بأكثر من عقدين من الزمن.
ألمانيا بدورها لها قصة طويلة مع «الإخوان المسلمين» تحديداً، الذين اخترقوا بناءها المجتمعي منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى غير المصدق قراءة ما جاد به الكاتب الكندي إين جونسون في كتابه «مسجد في ميونيخ» حيث أشار إلى خطط النازيين لاستخدام الإسلام لمحاربة الشيوعية.
تبقى فرنسا والتي تزكم فضائح قطر المالية فيها الأنوف السياسية، من زمن نيكولاس ساركوزي، وما ردات الفعل الشعبية الأخيرة إلا صحوة ضد هذا التماهي مع الدوحة، على أمل أن تستيقظ ضمائر الساسة وصناع القرار ما بين الـ«كيه دورسيه» إلى الإليزيه.
يقر المرء بحق كل دولة مستقلة في رسم سياساتها كما يتراءى لها وبحسب مصالحها ومقتضيات استراتيجياتها وتوجهاتها، غير أن أقل ما تقتضيه الأعراف الأخلاقية الإنسانية، الوقوف في وجه الباطل، سيما وأن كل ما يحتاجه الشر كي ينجح، هو أن يقف الأخيار مكتوفي الأيدي.
لم تعد المسألة بالنسبة لأوروبا والأوروبيين مسألة استثمارات، بل مواجهة بين قيم أوروبا التاريخية وواقع حالها، بين سياساتها المثالية، وإشكالياتها الواقعية، ولن يعول عليها كثيراً إذا طال بها التردد، سواء من الناحية الأدبية الأنفع والأرفع والأبقى مدى الزمان، أو من الجانب الاقتصادي، إذ لا ينتظر من دول المقاطعة أن تقف مكتوفة الأيدي طويلاً، وما لديها من استثمارات في عموم أوروبا، وارتباطاتها التجارية والاقتصادية والمالية مع أسواق وبنوك أوروبا بدورها سيكون له شأن آخر، إن بقي التهافت الأوروبي طويلاً.
يلفت النظر في الموقف الأوروبي التمايز الواضح بين مواقف الحكومات، وما تذهب إليه القوى الشعبوية والنخبوية، فالأولى تحاول اللعب على المتناقضات، في حين أن الأخيرة فاض بها الكيل من الممارسات غير الأخلاقية لحكومات سابقة، وما الشعبوية وصحوة القوميات إلا ضرب من ضروب التنكر للسياسات والسياسيين الفاسدين، الذين أغمطوا فلاسفة التنوير الأوروبيين حقهم، عبر السير في دروب الغواية المالية القطرية.
حماية لأهلها ومدنها، على بروكسل أن تكون حاسمة مع الدوحة، البلد الذي يمول هذه العصابات الإرهابية في كل مكان، وبأي ثمن لنشر التشدد والكراهية بين أمم الأرض. نعم عليها أن تختار بين الأموال القطرية أو أمن شعوبها وسلامتهم.