ازدهر «داعش» منذ بدايته من خلال تفوقه على غيره من التنظيمات في استغلال الفضاء الإلكتروني لشن حملات إعلامية تنشر رسائله وأهدافه بلغات مختلفة وأساليب متنوعة من بث مرئي وتسجيل صوتي وتصاريح إعلامية وتواصل مباشر مع الآخرين، وقد تفاوتت تلك الرسائل حسب الجهة المستقطبة وأغوت الكثير نتيجة إثارتهم لحس المغامرة في البعض أو الزج باسم الدين للآخرين، ليتم بذلك استقطاب وتجنيد قدر كبير من الأشخاص دون الحاجة للتواصل وجها لوجه، ليس فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تميز «داعش» بالتغلغل فيها كمنصة «تويتر» و«فيسبوك»، وإنما امتداداً إلى غرف المحادثات وبرامج كـ«تيليغرام» واستخدام الرسائل المشفرة. تفرد التنظيم باستخدامه ما يسمى بـ«الجهاد الإلكتروني» الذي ابتعد عن التقليدية واستقطب أجناساً وهويات مختلفة ومضى ليشجع حتى الذئاب المنفردة المتعاطفة مع التنظيم لإطلاق الخلل النفسي في أعماقهم وحمل السلاح، وإطلاق النار عشوائيّاً على المدنيين، ليتم بذلك التحكم بالآخرين لتنفيذ الهجمات الإرهابية عن بعد.
واجتهد التنظيم في نشره لخطاب الكراهية عبر البث المرئي والصوتي بتقنيات متطورة وانتقاء لتقنيين وخبراء قادرين على التأثير على الآخرين واستغلال العامل النفسي من جهة وتبرير العنف باسم الدين وتصوير للعمليات الانتحارية من جهة أخرى.
فيما برزت تسجيلات مرئية باسم «داعش» سعت لإبراز قوة التنظيم وقدرته على التغلب على أعدائه دون اكتراث لردود الفعل حيال عنف التنظيم وغرقه بالوحشية، إذ إن ذلك لم يمنع انضمام الكثيرين سواء بحثاً عن الإثارة أو تعاطفاً مع القضايا التي تلهج ألسن الأعضاء بها كمسوغات لضرورة الالتحاق بهم. فالعنف الداعشي أسبغ عليهم طابعاً خاصاً حيث بإمكان كل منتسب إليهم تحقيق أحلامهم المتوحشة منها والغرائبية، دون تورع عن قتل مسلمين أو حتى استهداف مقدسات وصلت إلى محاولة تفجير الحرم المكي والنبوي. فبعد أن تم تكفير كل من هو ليس منهم استبيحت دماء الجميع.
* الاحتضار الداعشي
يظهر أن تضييق الخناق على تنظيم داعش أفضى إلى بداية النهاية. لا سيما عبر الغارات الجوية التي شَنَّتها قوات التحالف فاستهدفت مقرّهم في كل من العراق وسوريا، وتسبب بتساقط أبرز قادة التنظيم بدءاً بزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي إذا ما تأكد خبر مقتله في ضربة جوية في سوريا وهو ما ترجحه روسيا وتتضارب الآراء حول صحته. فيما أعلن عن مقتل عدد كبير من قادة «داعش» من ضمنهم ريان مشعل أحد مؤسسي وكالة «أعماق» الناطقة باسم التنظيم، التي نشرت غالبية التسجيلات الأكثر انتشاراً من خلالها.
تتابُعُ مثل هذه الأحداث يشي بالاحتضار الداعشي حتى وإن كان ابتعد التنظيم عن الهيكلة الهرمية التي تعتمد على سلطة القادة، فإن تدمير أماكن نفوذهم قصم ظهورهم وتسبب بهجمات عشوائية سواء داخل العراق وسوريا أو في القطب الآخر الذي يمثل العالم أجمع تناثرت في رمضان لهذا العام وحده بدءاً من العراق وإيران والعراق ومرورا ببروكسل وانتهاء بالحرم المكي في السعودية. وقد اعتبر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تفجير منارة الحدباء التاريخية ومسجد النوري في مدينة الموصل بمثابة إعلان رسمي لهزيمة تنظيم داعش، إذ هو المكان ذاته الذي أعلن فيه البغدادي في 4 يوليو (تموز) 2014 عن قيام ما سماه «دولة الخلافة» لتبدأ مسيرته التخريبية، وكأن في تدمير هذا المكان تنبؤاً بانتهاء حقبتهم الإرهابية من خلال إضعاف التنظيم وتفكيكه واستهداف قادته من جهة، وكبح قدرته على تجنيد الآخرين عبر الترصد لهم إلكترونيّاً وبتر قدرتهم على الحصول على مؤيدين وتابعين في مناطق مختلفة من العالم.
* الاحترازات الأمنية
بدايات تنظيم داعش جعلته بمثابة «سوبرمان» للتنظيمات الأخرى، فقد تمكن من التغلغل في الموصل والرقة ليصبح من الصعب الوصول إلى أماكن نفوذهم، ليصل الأمر إلى الإعلان عن خلافة إسلامية تهدف إلى توسيع رقعتها وتهديد الدول المجاورة. فيما تم تجييش الخبراء والتقنيين للقيام استقطاب المتعاطفين عن بعد ودون مشقة. تلاشى ذلك المجد بعد إبادتهم في الموصل وانتقالهم إلى سوريا ليتم استهدافهم مرة أخرى. وتضافرت الاحترازات الأمنية لتشمل مسحاً أمنياً بغرض الكشف عن هويات المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية، الأمر الذي أدى إلى التمكن من تعقبهم والكشف عن أماكن وجودهم.
وفي 5 يونيو (حزيران) 2015، تمكنت القوات الأميركية من تعقب داعشي التقط صورة «سيلفي» في سوريا ليتم بعد ذلك شن غارة جوية استهدفت معقلهم. وتكثفت فيما بعد الجهود للملاحقة الإلكترونية للمتطرفين، إذ يظهر جلياً توجُّه وكالة الأمن الوطني الأميركية بالترصد لـ«داعش»، ليس فقط عبر التحالف الدولي، وإنما من خلال هجمات إلكترونية ضد التنظيم، ويتقاطع ذلك مع مساعي جهاز الشرطة الأوروبية تمشيط عشرات آلاف حسابات المواقع الاجتماعية المرتبطة بالتنظيم المتطرف ورفع تقارير بشأنها إلى الشركات المشغلة لتلك المواقع التي طالما تقع في معضلة الحريات الشخصية والأمن القومي.
وأد الأحلام الإلكترونية
رسائل مشفرة تحمل تعميماً إلى عناصر «داعش» تم بعثها إلى الداعشيين أخيرا تنم عن مدى تردّي حالة التنظيم، ويتجلى ذلك عبر فحوى التعميم إذ يعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مقاتليه ويجدد تهديده لكل من يخالف الأوامر كونه يعرض نفسه للمساءلة والمحاسبة. وتضمن التعميم التالي: «وقد اتخذ أعداء الدين شتى الوسائل لاختراق صفوف الموحدين وللاطلاع على أسرارهم ومن تلك الوسائل: مواقع التواصل الاجتماعي، فإن تفشي استخدام هذه المواقع بين جنود الدولة الإسلامية له ضرر كبير على الجماعة لا سيما وأنهم غافلون أنها أنشئت من قبل أعداء الله ورسوله وتراقب من قبلهم ليل نهار. فكم من مجاهد قتل بسببه وكم من مقر انهدم».
ويظهر هنا قلق يهز الوجود الداعشي ومحاولة للوذ بالفرار من قبضة السلطات العالمية التي تترصد لها. إلا أن مثل هذه الأوامر بقطع الإنترنت ليست بجديدة إذ في بداية مد نفوذ التنظيم في الرقة تم حظر استخدام الإنترنت فيها بهدف إخفاء طبيعة الممارسات التي تحدث فيها ومحاولة للتعتيم الإعلامي على الرقة. إلا أن الفرق هنا أن حظر استخدام الإنترنت لأعضاء التنظيم في الوقت الراهن قد يستمر لفترة غير محددة، لا سيما بعد أن تطورت قدرات الجهات الأمنية الدولية في الكشف عن مواقع وهويات مستخدمي المواقع الإلكترونية فيما تم الاتفاق مع معدي هذه البرامج من جهةٍ أخرى، ليصبح حظر الإنترنت محاولة مستميتة من أجل البقاء أو إطالة الرمق الأخير للتنظيم والسعي في عدم الكشف عن أماكن تخفيهم بعد أن تم استهداف عدد كبير من القادة والأعضاء، وهو أمر تجلى عبر شح الرسائل الداعشية لتصبح مجرد تسجيلات مرئية معدودة يختلط الجديد منها مع القديم، والمنسوب للتنظيم بمتطرفين آخرين أو ممن يحاول التخريب على التنظيم كظهور تسجيلات لمن يبدو وكأنه ينتمي للتنظيم ويحذر من الانضمام إليه، وظهور كثير من الحملات الدولية والوطنية والمستقلة لمناهضة «داعش». إذا ما قورنت الرسائل الداعشية الآن بمرحلة ما قبل تردي وضع التنظيم، حيث كانت رسائلها الإعلامية مكثفة وبلغات مختلفة وتقنيات متطورة. تظهر الرسائل والتسجيلات المرئية أخيرا قليلة بعيدة عن التقنية المتطورة التي تميز بها التنظيم في السابق، قد يكون ذلك نتيجة ضعف الموارد أو شح خبراء التقنية بعد استهداف وقتل عدد كبير منهم وهجرهم معاقلهم، فيما تعكس تلك الرسائل محاولات يائسة لإقناع الآخرين باستمرار توهج التنظيم، وعدم انحسار قوته بأسلوب دفاعي أخرق.
فبعد أن بدأت الرسائل الداعشية بدعوة الآخرين للانضمام للمسلحين في العراق ومن ثم لـ«داعش» في العراق والشام، أصبحت الرسائل تحاول إثبات استمرار قوة «داعش»، وبأنه لا يزال على نهجه في السعي لإقامة دولة للخلافة الداعشية دون تحديدها بحيز معين. إلا أن الحظر الأخير لوسائل التواصل الاجتماعي على أعضاء التنظيم يدل على انطلاقه نحو الهاوية، فمثل هذا الأسلوب الدفاعي يتنافى مع أحد أهم أسباب قوته في بداية عهده، وهو قدرته على التغلغل في العالم الافتراضي والتجنيد.
وسيترتب على مثل هذه القرارات (إن استمرت) دون إيجاد بدائل للتغلغل الإلكتروني عزل للتنظيم عن العالم الخارجي. مما قد يشكل إحباطاً لأعضائه بالأخص ممن اعتادوا التواصل مع الآخرين. تلك النافذة التي مَكّنت أعضاء التنظيم من استعراض تجاربهم سواء في التدريب أو الاختطاف والقتل والتعذيب أو حتى العمليات الانتحارية، مما جذب أعداداً كبيرة من المتهافتين والراغبين في الانضمام إلى «داعش» تعد الوسيلة الأكثر اعتماداً من قبل «داعش» لنشر «البروباغندا» الداعشية، دون أن يتم التوصل إليهم، انقلبت عليهم بعد أن تم الوصول إلى معاقلهم وأصبح من السهل استهدافهم.