فاجأت رئاسة الحكومة التونسية الرأي العام الشعبي والدولي مجددا بسلسلة من قرارات المُصادرة والإيقاف التي شملت شخصيات اتهمتها بالضلوع في التهريب وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع ضمن ما وصفته بـ«الحرب الشاملة على الفساد». وأحدثت هذه الحملة صدى إعلامياً وشعبياً كبيراً، لأنها لم تقتصر على بعض كبار المتهمين بالضلوع في التهريب وفي التهرب من الضرائب، بل شملت أيضاً شخصيات مالية واجتماعية وسياسية بارزة. وكانت المفاجأة أن بين من وصفهم الإعلام بـ«الحيتان الكبيرة» رجال أعمال يلعبون منذ سنوات دوراً في الصف الأول على رأس أكبر الأندية والجمعيات الرياضية والأحزاب السياسية مثل سليم الرياحي رئيس النادي الأفريقي الفائز بكأس تونس لكرة القدم هذا العام، وشفيق جراية أحد أبرز مموّلي النادي الصفاقسي، وياسين الشنوفي المرشح السابق لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2014 وأحد المقرّبين من أصهار الرئيس الأسبق لتونس قبل ثورة 2011 زين العابدين بن علي، والنجم التلفزيوني سمير الوافي.
مرة أخرى تقترن ما دُعيت «الحملة على الفساد في تونس» بما يسمى بـ«لعبة المال والرياضة والإعلام والسياسة»... وهو ما ذكّر المراقبين بصراعات مماثلة على المواقع ومراكز النفوذ شهدتها تونس طوال السنوات الـ60 الماضية، وأخرى فجّرتها بحملة المصادرة لأملاك مئات من أفراد عائلات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وعدد من وزرائه.
أصغر مرشحي الرئاسة
كان رجل الأعمال الشاب سليم الرياحي، ابن الـ44 ربيعاً، الذي عاد إلى تونس من ليبيا قبل نحو سنتين من سقوط حكم بن علي في تونس وحكم معمر القذافي في ليبيا عام 2011، شخصية غير معروفة بالمرة في بلده... لا سياسياً ولا مالياً ولا إعلامياً. وكل ما يورده القضاة والمحامون القدامى عنه هو أن والده محمد الرياحي فرّ بعائلته من تونس إلى ليبيا خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وذلك بعد سنوات من ممارسة مهنتي القضاء والمحاماة.
وفي ليبيا، حسب المعلومات المتوافرة، ارتبط محمد الرياحي بسرعة بعلاقات متطورة مع مقرّبين من القذافي إلى أن عيّن على رأس جبهة سياسية قومية عربية معارضة لنظام الحبيب بورقيبة تعمل داخل الأراضي الليبية كانت ترفع شعار «تحرير تونس من عملاء فرنسا والاستعمار الجديد».
في المقابل، يتهم خصوم الرياحي، والد سليم، بالفرار من تونس بسبب ملاحقات قانونية في قضية حق عام. غير أن سليم الرياحي نفسه أورد أن من بين أسباب فرار والده وعائلته إلى ليبيا في أواخر عهد الزعيم الأسبق الحبيب بورقيبة مواقف سياسية.
ولكن فجأة، بعد ثورات «الربيع العربي» وانطلاق حمى المعارك السياسية والانتخابية والاضطرابات الأمنية والاجتماعية في كل من تونس وليبيا... سطع نجم سليم الرياحي.
لمع سليم الرياحي فجأة في المشهد السياسي التونسي ضمن أصغر المرشحين لانتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 مع ثلة من رفاقه الذين أسّس معهم ما عرف باسم الحزب الوطني الحر. يومذاك لم يتوقع أحد أن يفوز الرياحي وحزبه بالمرتبة الثالثة في انتخابات 2014 الرئاسية والبرلمانية، مباشرة بعد حزب «نداء تونس» بزعامة الرئيس الباجي قائد السبسي و«حركة النهضة» الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي.
وكان الحدث أن نجح الزعيم السياسي والرياضي الشاب في تصدّر المشهد الإعلامي والحزبي والبرلماني والرياضي الوطني ومنافسة القيادات السياسية التاريخية للنظام القديم وللمعارضة السابقة مثل وزير الخارجية والدفاع الأسبق كمال مرجان زعيم حزب «المبادرة»، وأحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الجمهوري، وحمّة الهمامي زعيم اليسار الراديكالي، ومصطفى بن جعفر زعيم المعارضة الليبرالية الوسطية.
باب التمويل السياسي
إلا أن الصعود السريع الكبير لسليم الرياحي فتح، منذ 2011، جدلا في وسائل الإعلام وصنّاع القرار حيال ملف «المال السياسي»، وذلك وسط تباينات في تقييم ظاهرة تداخل فيها مبكراً المالي والرياضي بالسياسي. واختلفت المواقف بين مساند ومعارض لحق ملياردير شاب عاد إلى تونس فجأة بمنافسة الزعماء والأطراف السياسية الكبيرة و«بارونات» المال والرياضة والأحزاب والنقابات.
بل لقد برز الرياحي، الملياردير المثير للجدل، في موقع ذكّر ساسة تونس وإعلامييها بظواهر مماثلة في أوروبا مثل رئيس الحكومة الإيطالي ورجل الأعمال المثير للجدل سيلفيو برلوسكوني – مالك نادي آ سي ميلان لكرة القدم - أو السياسي ورجل الأعمال الفرنسي برنار تابي الذي امتلك بجانب مواقعه السياسية نادي أولمبيك مرسيليا الرياضي.
وكانت النتيجة أنه رغم ما تميز به سليم الرياحي من كرم مالي مبالغ فيه على أنصاره وعلى المشاركين في اجتماعاته الانتخابية وحملاته الإعلامية، فشلت قوائم حزبه في توظيف الإنفاق السخي انتخابياً في 2011. إذ انتزع حزبه مقعداً يتيماً وهامشياً في البرلمان الانتقالي الذي شُكّل بعد تلك الانتخابات، وعرف بـ«المجلس الوطني التأسيسي».
بل لقد دأبت المواقع الاجتماعية والبرامج الحوارية الإذاعية والتلفزيونية على التهكم على الرياحي الذي قيل في 2011 إنه أهدر ملايين الدولارات من أجل مقعد واحد من بين 217 حصل عليه بـ«الإسعاف» بفضل نظام الاقتراع التونسي الذي يسمح للأحزاب الصغيرة وقوائم المستقلين بالفوز ببعض المقاعد بفضل نظام المزج بين نظامي الغالبية والنسبية.
الآلاف في الشوارع
مع هذا، وعلى الرغم من الاتهامات والتهكم، لم ينسحب الرياحي من اللعبة السياسية، بل اقتحم بسرعة عالم الرياضة وتقدّم إلى غرفة قيادة أحد أعرق الأندية الرياضية التونسية منذ 1920... النادي الأفريقي، الذي يعد فريقه الكروي «الأحمر والأبيض» أحد القطبين الكرويين التقليديين في تونس العاصمة مع نادي الترجي الرياضي.
وفي وقت قياسي وظف الرياحي الأزمة المالية للنادي العريق وتسلّم منذ 2012 رئاسته مستفيدا من دعمه المالي السخي للاعبيه وهيئته المديرة ومن شائعات قد تكون مضخمة عن ثروته وعن تنقلاته على متن طائرته الخاصة بين مؤسساته المالية والاقتصادية في تونس وفي العالم أجمع.
وبالرغم من حملات التشكيك في شرعية الشاب الذي احتل بسرعة كراسي متقدمة في عالم الرياضة والمال والسياسة، نجح الرياحي في تجنيد عشرات الآلاف من أنصار فريق النادي الأفريقي في مسيرات وتجمعات ضخمة في الشوارع تهتف باسمه وباسم فريقهم الذي كان منذ حوالي قرن المنافس الشرس لنادي الترجي.
وصعدت شعبية الرياحي سياسياً وإعلاميا مراراً، ثم تقلبت بالتوازي مع نتائج فريق النادي الأفريقي خاصة عندما تعلق الأمر بمقابلات «الديربي» المحلي المنتظرة مع الترجي في العاصمة، أو لقاءات القمم الكروية مع فرق الأندية العريقة خارج العاصمة مثل النجم الرياضي الساحلي (في مدينة سوسة) والنادي الرياضي الصفاقسي (مدينة صفاقس).
أموال أبناء القذافي؟
وقد أطنب خصوم سليم الرياحي، من التونسيين والليبيين، في طرح علامات استفهام حول سر الثراء الكبير الذي نسب إليه وصعوده بنسق سريع إلى مواقع صنع القرار. وزعمت بعض هذه الأوساط أن مصدر أمواله كان صفقات قديمة مع بعض أبناء الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي منذ كان طالباً في جامعة طرابلس، ثم بعد سفره إلى بريطانيا مع بعضهم لإكمال دراساتهم واستثمار أموالهم أو «تبييضها».
كذلك ادعى بعض خصوم الرياحي وجود علاقات خاصة مزعومة له مع معتصم القذافي، الرجل الأقوى بين أولاد الزعيم الليبي الراحل، الذي قتل في معارك طرابلس خلال صيف 2011. وكانت استهدفت المعتصم قوات الحلف الأطلسي (ناتو) والثوار المسلحون على حكم والده لأنه كان القائد العام - بعد والده - لكل الأجهزة الأمنية والعسكرية والفرق المختصة في النظام الليبي المنهار.
هذه الرواية عن مصدر ثروة سليم الرياحي تفسّر استهدافه منذ 2012 بعدد من القضايا العدلية التي رفعها نشطاء وسياسيون ليبيون مرارا ضده أمام المحاكم التونسية والدولية. ولقد روّج هؤلاء ضده حملات إعلامية للطعن في مصداقيته، ولا سيما اتهامه بتهريب جانب من أموال المعتصم القذافي من بريطانيا وسويسرا إلى بنوك دولية عديدة بينها البنوك التونسية. غير أن السياسي ورجل الأعمال والرياضة الشاب كان دوماً يكذّب خصومه، ويردّ باتهامهم بمحاولة الطعن في مصداقيته والإساءة إليه لسرعة نجاحاته وزحفه السريع نحو الصدارة في عوالم المال والأعمال والرياضة ومؤسسات الدولة.
الحقيقة، أن سليم الرياحي لم ينكر مطلقاً علاقاته المتطورة السابقة بأبناء العقيد معمر القذافي داخل ليبيا وخارجها... لكنه يفسّر مصدر ثرائه باستثمارات ناجحة قام بها في أوروبا مع شركاء ليبيين وأجانب. ويؤكد دائماً أن سر نجاح تلك الاستثمارات رهانها المبكّر على اقتصاد الخدمات وعلى الوساطات المالية والاقتحام المبكر للاقتصاد الرقمي في مؤسسات بريطانية وسويسرية وأوروبية وعربية. كذلك يفسّر الرياحي نجاحاته المالية في تونس برهانه على المؤسسات التصديرية المعفية من الضرائب والتي تعتمد رؤوس الأموال بالعملات الأجنبية. وهو يعتبر أنه ينبغي - بل، ويستحق - أن يكافأ لأنه جلب أموالاً إلى تونس عوض أن يهرّب الأموال... مثلما يفعل كثرة من المستثمرين.
انتخابات 2019
اليوم، تقول المصادر الحكومية التونسية إن قرار مصادرة أملاك سليم الرياحي، من عقارات وأرصدة وسيارات، تندرج ضمن الحملة التي تشنها منذ أسابيع حكومة يوسف الشاهد على المتهمين بالفساد المالي. وبين هؤلاء بعض نجوم السياسة والشاشات التلفزيونية مثل رجال الأعمال شفيق جراية وياسين الشنوفي ونجيب إسماعيل والإعلامي سمير الوافي، فضلا عن بعض الضباط الكبار في القمارق (الجمارك) والأمن، وكذلك من يوصفون بـ«أباطرة» التهريب على كل من الحدود الليبية التونسية والحدود التونسية الجزائرية، وبين هؤلاء من اتهم بالضلوع في تهريب أسلحة والاتجار غير المشروع فيها. لكن الرياحي صرح لوسائل الإعلام بأنه يساند الحملة الحكومية على الفساد والتهريب والتهرّب من الضرائب. ونزّه نفسه عنها، وأورد أنه يتعرّض مع النادي الأفريقي إلى مضايقات متعمدة لأسباب وصفها بالسياسية بعد تزايد حظوظه وحظوظ حزبه بلعب دور أكبر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة لعام 2019.
وفي المقابل، تتابع بعض وسائل الإعلام التونسية المقرّبة من الحكومة توجيه اتهامات خطيرة للرياحي وتبرّر قرار مصادرة أملاكه وملاحقته قانونيا بتهمة تبييض الأموال المهرّبة. وهي تهم – كما سبقت الإشارة – ينفيها الرياحي بقوة، ويستدل على ذلك بكونه أودع الأموال التي جلبها من الخارج في البنوك التونسية ولم يستثمرها في المسالك الموازية، كما يفعل المهرّبون والمتهمون بالفساد. كذلك يورد أن التبعات الحالية تستهدفه لأنه أسس مع بعض المعارضين «جبهة للإنقاذ» السياسي طالبت بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها، ودعت إلى تمزيق «وثيقة قرطاج» التي وقّعتها غالبية الأحزاب السياسية والنقابات قبل سنة بحضور الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وأدّت إلى تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» الحالية التي شاركت فيها 7 أحزاب ليس بينها حزبه الحزب الوطني الحر.
من جهة ثانية، تعرّض الرياحي قبل أسابيع لاتهام من قبل برهان بسيس، مدير المكتب السياسي لحزب الرئيس قائد السبسي، بأنه «قام بتحركات مشبوهة توحي بالتآمر على أمن الدولة». وكان من بين التهم الموجهة للرياحي أنه وحليفه السابق محسن مرزوق، زعيم حزب «مشروع تونس» المنشق عن حزب الرئيس، عقد لقاءً سرياً في أوروبا مع شخصيات عربية تتهمها وسائل إعلام تونسية بأنها تنتمي إلى كتل مناوئة للتغيير السياسي ومعادية لـ«الإسلام السياسي».
إلا أن من بين ما يلفت الانتباه انسحاب حزب محسن مرزوق من «جبهة الإنقاذ» التي شكلها مع الرياحي وفتحه مجددا قنوات حوار مع حزب «نداء تونس» ومؤسسات الحكم، وخاصة مع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد. واعتبر المراقبون تغير موقف حزب مرزوق، الذي هو صاحب الكتلة الثالثة في البرلمان، تنصلا من الرياحي، حليف الأمس في «جبهة الإنقاذ»، لأسباب عديدة من بينها دعواته الأخيرة المتعاقبة إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة وتشكيل حكومة تكنوقراط ليس فيها ساسة من الحزبين الكبيرين في البلاد: حزب «نداء تونس» بزعامة الرئيس قائد السبسي ونجله حافظ ورئيس الحكومة الشاهد، و«حركة النهضة» بزعامة الغنوشي التي لديها أكبر كتل البرلمان.
ولعل من بين ما زاد تعقيد ملف سليم الرياحي وشركائه الداعين إلى «القطيعة» مع حكومة «الوحدة الوطنية» الحالية تزايد شعبية هذه الحكومة منذ إعلان حربها الشاملة على الرشوة والفساد وتبييض الأموال. ويمكن أن تؤدي هذه المستجدات إلى تعديل كبير في الحكومة يسفر عن إسناد الغالبية الساحقة من المقاعد إلى حزبي «النداء» و«النهضة» وإبعاد الأحزاب الصغيرة وبينها حزب الرياحي... تحضيراً للانتخابات البلدية العامة المقررة لشهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
في أي حال، قد تتنوّع الصراعات في المرحلة القادمة في تونس، سواءً تواصلت الحرب التي تقودها الحكومة على الرشوة والفساد والتهريب أم توقفت. وفي كل الحالات، أيضاً، قد يجد مزيد من رموز المال والسياسة والرياضة والإعلام أنفسهم في قفص الاتهام بعدما تخلى عنهم «حلفاء الأمس» القريب...