عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

قطر الدولة الفاشلة ومعركة الإرهاب

باختيار قادتها، تعيش دولة قطر أسوأ لحظاتها التاريخية، وهي لحظة الهبوط القسري من لحظة أوهام القدرة التوسعية وبسط النفوذ إلى لحظة المواجهة الواقعية والحجم الحقيقي. حمولة أكثر من عشرين عاماً من الخطأ والخطيئة تطوّق عنق القيادة القطرية، وتحجب عنها أي أفق مستقبلي.
وفق ترتيب الأحداث فقد أعلنت الدول العربية الأربع؛ السعودية والإمارات ومصر والبحرين، قبل أكثر من شهرٍ، مقاطعة قطر لسياساتها التخريبية ودعمها وتمويلها للجماعات الإرهابية، وقامت الكويت بدور الوسيط، وسلمت هذه الدول ثلاثة عشر مطلباً مستحقاً لقطر عن طريق الوسيط، وجاء الرد القطري سلبياً، فكان البيان الصادر من القاهرة 5/ 7/ 2017، وإكمالاً له جاء بيان الدول الأربع، الجمعة الماضي.
الخبرة تخذل صاحبها أحياناً فيصبح عاجزاً عن رؤية المتغيرات الكبرى، وخبرة قطر في تغطية تخريبها ورعايتها للإرهاب وسبل الاعتذار من دول الخليج أصبحت باليةً ومكشوفةً أمام الجميع، والعودة إليها مرةً جديدةً لا تعني سوى الفشل السياسي والدبلوماسي الذي لم تزل قطر تتخبط فيه منذ اشتعال الأزمة.
الأزمة سياسيةٌ بالدرجة الأولى ولكن لها تبعاتٍ قانونية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية واسعة النطاق، وقد بنت الدول المقاطعة تصوراً واضحاً لمواجهة طويلة الأمد، تجبر الدوحة على أحد خيارين لا ثالث لهما؛ إما الانحياز للمجتمع الدولي والعربي والخليجي في رفض التخريب والإرهاب وداعميه الإقليميين والعودة للصواب، وإما الفراق وتحوّل المقاطعة إلى قطيعةٍ دائمةٍ.
القضية التي تبنى ضد قطر وصلت لكثير من أهدافها بمجرد إطلاقها، فقد أصبح العالم بأسره يعلم أن قطر تموّل الإرهاب وترعاه في كل مكانٍ تقريباً، وقامت سوق لحروب الوثائق والتسريبات تصب جميعها في فضائح متواليةٍ للسياسات القطرية، وهي لم تظهر بعد إلا رأس جبل الجليد، وما خفي كان أعظم.
إنها قضية مبنيةٌ على القانون الدولي كما صرح وزيرا الخارجية الإماراتي والسعودي، الشيخ عبد الله بن زايد وعادل الجبير، ومبنيةٌ على قواعد الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي وكذلك منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك على اتفاق الرياض 2013 والاتفاق التكميلي وآليته التنفيذية 2014، فهي بهذا شديدة الإحكام قانونياً، وهي كذلك قضيةٌ أخلاقيةٌ ذات بعدٍ اجتماعي لا ينكر، فافتضاح خيانة الأخ لأخيه وسياسات الطعن في الظهر تفقد الثقة لدى أي سياسي يتعامل مع قطر كما تكشف للشعب القطري حجم الجناية التي ارتكبتها قيادته.
ما لم تفهمه القيادة القطرية هو أن المقاطعة الحالية شديدة الوطأة على الدولة القطرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهي تزداد أثراً وثقلاً مع مرور الوقت، ومن المنتظر أن تتبعها إجراءاتٌ أشد تعتمد على مبدأ سيادة الدول الأربع وحقها الأصيل في حماية نفسها من السياسات المعادية التي تتبناها قطر، والذي جاء في البيان أنها ستكون «بالشكل الذي تراه» هذه الدول وفي «الوقت المناسب»، ما يجب أن يزيد من مخاوف القيادة القطرية كونه يشير لمعركة طويلةٍ وباردةٍ وليست مجرد تكتيكٍ سريعٍ.
الدول التي تعاند حركة التاريخ تتجه للفشل، وأوضح الأمثلة على ذلك كوريا الشمالية وإيران، وقطر إن لم ترجع لصوابها فستضمن الدول الأربع لها أن تصبح فاشلةً كسابقاتها، ثمّ أي نموذجٍ ترجوه القيادة القطرية لدولتها وشعبها حين تسوق لهم أنها ستصبح مثل الدولتين المنبوذتين في العالم؛ كوريا الشمالية وإيران.
بحسب سياق الأزمة، فإنه ستتم محاصرة قطر أكثر كلما أوغلت في العناد الاستراتيجي، عبر ما صرّح به مسؤولون خليجيون، وسوف يتمّ التعامل مع شركائها التجاريين، وتخييرهم بين الدول الأربع الداعية لمحاربة الإرهاب وحلفائها، وقطر.
كذلك يمكن أن يتمّ إخراج قطر من كل المؤسسات الإقليمية، كالجامعة العربية، وكذلك المؤسسات الإسلامية ذات البعد الدولي، كمنظمة التعاون الإسلامي، قبل التوجُّه للأمم المتحدة، وهو مسارٌ واضحٌ للأزمة، وإن لم تعد قطر فإنه سيتم التعامل معها كدولة خارجةٍ عن القانون الدولي في نهاية المطاف.
العالم أمام معركةٍ تاريخية، هي معركة القرن بامتياز، ومعركة المستقبل، وهي معركة القضاء المبرم على جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها... إنها معركة السلام والتسامح ضد الحروب والتطرف، معركة المحبة ضد الكراهية، معركة التنمية ضد التخريب والهدم، والأزمة القطرية تعبر عن الخطوة الأولى لاتجاه دولي واسعٍ يقضي على عاهات الإرهاب والتطرف التي نشرت الخراب والدماء والأشلاء في كل العالم.
أحد أهم عوامل قراءة الأزمة مع قطر هو الوقت، والوقت شديد كالسيف، وهو في صالح الدول الأربع وحلفائها الدوليين والإقليميين وضد القيادة القطرية التي يتم إحكام الخناق عليها وزيادة عزلتها وتقليل خياراتها، وأي سياسي حصيفٍ يمكنه بسهولةٍ رؤية مآلات هذه الأزمة.
لأسباب متعددةٍ، اختارت القيادة القطرية بوعي وتصميمٍ، وتخطيطٍ وتنفيذٍ، أن تقف ضد مصالح السعودية والإمارات والبحرين ومصر في غمرة أوهامٍ سيطرت على القيادة القطرية، ولم تترك عدواً كاشحاً أو صاحب مشروعٍ معادٍ من دولٍ وجماعاتٍ إلا تحالفت معه، ونسيت في غمار الوهم قوة الحقيقة، وأعماها كبر الطموح الكاذب عن الواقع وتوازنات القوة فيه، وأغواها طول صبر هذه الدول عن التفكر في المآلات والمصائر، وقد حان وقت الحقيقة وجاءت لحظة كشف الحسابات.
القائد الواعي هو الذي يكون قادراً على اتخاذ قرارات المراجعة والتصحيح، وعلى استيعاب مستقبل قراراته، وعلى امتلاك شجاعة الاعتذار، لا في التفاصيل الصغيرة فحسب، بل في الرؤى الحاكمة والاستراتيجيات التي يتضح فشلها وضررها، وهو امتحان صعبٌ على القيادة القطرية في هذه الأزمة، فلن تقبل الدول الأربع أقل من العودة الكاملة والتراجع الشامل عن سياسات أكثر من عشرين عاماً في التيه الذي صنعته القيادة القطرية لنفسها.
ما لم يستوعبه صانع القرار القطري هو أن المعركة معركةٌ سياسيةٌ بامتياز - كما تقدم - مع كل التبعات الاقتصادية والاجتماعية، وأوراق قطر في هذه المعركة ضعيفةٌ جداً ولا تستطيع بحالٍ مواجهة الدول الأربع وحلفائها، وهي تحشر في الزاوية مع كل يومٍ يمرٌ، وقد ألغت هذه الدول المطالب الثلاثة عشر لعدم استجابة قطر لها ضمن المهلة المحددة بعشرة أيام، ما يشير بوضوحٍ إلى مزيدٍ من الضغط ومزيدٍ من احتواء العداوة القطرية.
أخيراً، يعلم الجميع أن الإرهاب لن ينتهي بين عشيةٍ وضحاها فالمعركة معه طويلةٌ ولكنها معركةٌ مستحقةٌ وضروريةٌ، وهي بدأت من قطر.

[email protected]