جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

سفينة الأحلام الضائعة

بدأت السفر على طريقة «الكروز» منذ نحو الأربع سنوات. في بادئ الأمر كنت مترددة، لأن هذا النوع من السفر لطالما ارتبط بالمسنين محدودي الحركة، ولكن؛ وبعد أول تجربة على إحدى السفن السياحية العملاقة أصبحتُ سفيرة تنشر حب السفر على متن السفن كتابة وشفهياً.
كتبت كثيراً من المقالات عن رحلاتي البحرية وعن الخدمة الممتازة على متن تلك البواخر وعن الطعام والمطاعم، ولطالما شبهت السفن بفنادق من فئة خمس نجوم عائمة، ولكن ما غاب عن بالي وعن قلمي هو إخباركم عن قصص العاملين على سفينة الأحلام، وهم أحلامهم ضائعة فيها.
في آخر رحلة قمت بها منطلقة من برشلونة، تعرفت على مدى سبع ليالٍ على موظفين من أكثر من 20 جنسية، من تونس والمغرب، والإكوادور وكوبا وكولومبيا والمكسيك والفلبين... تختلف ثقافاتهم وتجمعهم أحلامهم الضائعة وقصصهم المتقاربة والمتشابهة.
كنت أستيقظ كل صباح في مدينة مختلفة وعلى قصة مختلفة، وهذا ما جعلني أفكر بسخرية القدر، فالمسافرون ينتظرون العطلة السنوية بفارغ الصبر، يصلون إلى الباخرة لتبدأ رحلة الأحلام وتنتهي ويترجلون من السفينة ليبقى موظفوها والعاملون فيها على متنها ليخبروا قصصهم لمسافرين جدد.
تعرفت على سيدة من الإكوادور في العقد الخامس من العمر، كانت مهمتها توضيب غرفتي صباحاً وتزيينها مساء من خلال وضع مناشف على شكل فيل أو قرد صغير، شاءت الصدفة أنني رأيتها في اليوم الأول من الرحلة وبدأت تروي لي قصتها الحزينة، فهي تعمل لتدفع قسط جامعة ابنتها الكبرى وقسط مدرسة ابنتها الصغرى، هجرها زوجها ولم يتعرف على ابنتيه منذ تلك اللحظة، لا ترى ابنتيها لمدة ستة أشهر.. روت لي كيف أنها تسرق نظرة لابنتيها من الباخرة في حين تقف الفتاتان على الرصيف، حلم الفتاتين أن يأتي اليوم الذي تعود فيه الأم إليهما، كما أن حلمهما الثاني هو السفر على متن الباخرة.
قصة تلك السيدة مبكية بالفعل، فهي تبقى مبتسمة وفرحة لأن هذا ما تفرضه عليها قوانين الشركة، ولكن على الصعيد الإنساني؛ فمن الصعب تقبل حياة هذه السيدة التي ترى ابنتيها مرة كل ستة أشهر.
نظام الأكل في السفن السياحية يقضي بأن يتولى نادل واحد خدمة عدد معين من الطاولات طيلة وقت الرحلة، نادل طاولتي كان من الفلبين، الابتسامة لا تفارق ثغره وهمه الأول والأخير هو الحصول على سطرين على موقع الشركة يشيد بخدمته الجيدة، وفي الليلة ما قبل الأخيرة أراد النادل أن يقدم شيئاً مميزاً لضيوفه، فدعانا جميعاً للصعود إلى السلم الكبير الذي يتصدر المطعم، فراح الجميع يتساءل عن المفاجأة التي يخفيها النادل، وما إن وصلنا إلى البيانو حتى رأيناه يجلس على الكرسي ويبدأ بالعزف الرائع الذي أبكى الحاضرين بتلك النغمات الجميلة، وعندما سألناه عن السبب الذي يجعله يعمل نادلاً وليس عازفاً للبيانو على متن الباخرة، أجاب بأنه لم يدرس الموسيقى، وبالتالي لا يستطيع قراءة النوتة الموسيقية، وأخبرنا بشيء آخر لا يصدق، بعدما أخرج بطاقة تحمل اسمه وصورته ولكنها بدت مبللة وبالية، تعود لعمله على باخرة «كوستا كونكورديا» التي غرقت في يناير (كانون الثاني) عام 2012 ووقع فيها 32 ضحية وشاء القدر أن يكون هو من بين الناجين، ولا يزال يحتفظ ببطاقته التي كانت في جيبه في تلك الليلة المشؤومة، وروى لنا المشهد المأساوي وكيف هجره النوم لفترة طويلة وكيف كان قرار عودته للعمل على متن سفينة أخرى من أصعب القرارات في حياته، قائلاً: «لقمة العيش صعبة وتجبرك على التأقلم مع كوابيسك».
بالفعل القصص التي تسمعها على متن السفينة محزنة وتجعلك تقدر ما وهبك الله من نعم.
يكفي أن نفكر في هؤلاء الذين يبقون ساهرين على خدمتنا في وقت نتمتع فيه برحلتنا ومن المستحسن أن نشاركهم شعورهم، لأن بعضهم يشعر وكأنه شبح لا يراه المسافر.