سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

نجوم الصيف: حنجرة الشجن

كانت فاتن حمامة في الأفلام الأولى التي شاهدتها في طفولتي، لا تزال تلعب دور الطفلة المظلومة، وكان الأطفال الذين يشعرون بالظلم كثيرين أيضاً. والدور التي كانت تعرض أفلامها في بيروت، كانت تكتظ بالمشاهدين وتمتلئ بالدموع.
عندما تكتب في موضوع واحد، تقع حكماً في التكرار. وأعتذر عن بعض التكرار في حكايتي مع «سيدة الشاشة»، بسبب موضوع هذه السلسلة. إذن، ذهبت الطفولة، وكبرت النجمة، وكبر المشاهدون. لكن عندما توقفت فاتن عن تأدية أدوار التبكية، كنت أنا أيضاً قد توقفت عن مشاهدة الأفلام العربية، بسبب الأسفار وغيرها. وهكذا، لم يرسخ في ذاكرتي منها سوى أدوار الحزن وصوتها يملأ دار السينما إيقاعاً شاكياً. ولم يكن من الضروري أن تغني فاتن، فقد كانت حنجرتها ترسل الشجن ومعه أصداؤه.
أواخر السبعينات، أو أوائل الثمانينات، كتبت في «المستقبل» الباريسية، شيئاً عن فاتن. وقرأ أحمد بهاء الدين ما كتبتُ، فقال مازحاً: لم أعرف من قبل مولَّهاً بفاتن مثلك. لماذا لا أقدمك إليها. وذات مرة كنا نحضر حفلة غنائية لمحمد عبد الوهاب في «البرت هول» في لندن. ولدى الخروج مع مئات الناس، سمعت بهاء يناديني وسط الزحام، ويقول لفاتن «هوه ده المولّه».
وفي اليوم التالي، تناولت العشاء مع فاتن ضيفاً على بهاء وزوجته ديزي. وبما أنني لم أكن أزور القاهرة من غير بهاء، فكل مرة شاهدت فاتن كانت في حضوره. وعندما دخل في غيبوبته، التي عبر منها إلى الغيبوبة الكبرى، صرت أرى مع فاتن أصدقاءه ورفاقه. ومرة في منزلها الذي يشبهها بأناقته ونعومته. ومن الأقدار أنني قابلتها آخر مرة في منزل بهاء، بدعوة من ديزي لعدد كبير من أصدقاء العائلة. وكان بينهم الدكتور مصطفى الفقي، الذي «سيطر» على الجلسة بأحاديثه وأفكاره وذكرياته، مثيراً بذلك غبطة كبار الحاضرين أمثاله.
حاولت ذلك المساء أن «أفتح حديثاً» فنياً مع فاتن، لكنها كانت شديدة الاقتضاب. وكأنها شعرت بأنني فقط أبذل جهداً لمسايرة هالتها. أو ربما كان يخامرها شعور بأنها لم تعد تلك النجمة التي إذا حضرت لم يبقَ ضوء آخر في المجالس.
وكان ذلك محزناً مثل أيام طفولتها، ولكن هذه المرة عن قرب، وليس على الشاشة. أمضت فاتن معظم السهرة صامتة ساهمة. وكان قد بقي من ألق الماضي ما لا يزول.
إلى اللقاء..