فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

في علاقات الضمير اللبنانية ـ السورية

في خطوة تمت قبل أيام، وقع مائتان وخمسون لبنانياً من الكتاب والصحافيين والفنانين والناشطين السياسيين وفي المجتمع المدني، بياناً ضد الممارسات التي تطال المدنيين السوريين في لبنان.
وقال بيان الناشطين اللبنانيين، إنه انطلاقاً «من موقع إيماننا بلبنان وطناً للحرية والتعدد واحترام حقوق الإنسان»، و«إن الجيش ينبغي أن يكون الطرف الوحيد المسلح في هذا البلد، نعلن رفضنا القاطع، واستنكارنا لبعض الممارسات المقززة بحق المدنيين السوريين، الذين اضطرتهم مأساتهم إلى اللجوء إلى بلدنا». وأضاف البيان، أن ما يرافق هذه الممارسات من حملات تحريض على السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الصحف وشاشات التلفزيون، أو على ألسنة بعض السياسيين، لا يقل بشاعة عن الممارسات الإجرامية نفسها، وهذه مثل تلك، لا تسيء للسوريين الأبرياء فحسب، بل تسيء أولاً وأخيراً إلى صورة لبنان، كما تنقص من ضمائر اللبنانيين، فما يجري على هذا الصعيد، لا يمثلنا بتاتاً، بل يواجهنا بخيارات حادة، يتعلق بعضها بتنظيف وطنيتنا من شوفينيتها، ويجعل الموقف من اللاجئين، أحد هذه المعايير، التي نريدها صنواً للديمقراطية وحقوق إنسان.
لقد بدت هذه الخطوة متوقعة ومطلوبة. متوقعة لأن لبنان واللبنانيين، لا يمكن أن يكونا متوافقين على نسق من ممارسات عنصرية دموية تم ارتكابها بدم بارد ضد اللاجئين السوريين، وقد سبق وقامت فعاليات لبنانية في السنوات السبع الماضية بأنشطة متعددة، أظهرت مواقف لبنانية سياسية وضميرية حول ما جرى ويجري ضد السوريين، ليس في سوريا وحدها، بل في لبنان أيضاً. وكانت الخطوة متوقعة، ليس فقط، لأن لبنان واللبنانيين، لا يمكنهما السكوت عما جرى في عرسال ومخيماتها، وهو أمر يمكن أن يتكرر إلى مناطق لبنانية أخرى، ينتشر فيها أكثر من مليون لاجئ سوري، مما يعني تحويل لبنان إلى ساحات دم وعنف واضطهاد، ذاق اللبنانيون مرارته في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) ولا يرغبون في عودته كلياً أو جزئياً إلى حياتهم، بل إن الأهم في ضرورة إصدار البيان، إعادة تصويب النقاش حول وضع اللاجئين السوريين في لبنان، وتأثيراته الراهنة واللاحقة على مستقبل العلاقات السورية - اللبنانية، التي لا يمكن تجاوز قدريتها، ليس بحكم العلاقات التاريخية والاجتماعية فقط، بل بحكم المصالح التي تربط البلدين والشعبين، خصوصاً أن بعض الأوساط اللبنانية والسورية، ذهبت في نقاش القضية باتجاه تأسيس مرحلة من الصراع التناحري بين البلدين والشعبين، وهي خطوة ينبغي أن تتوقف، لأنها لا تخدم البلدين ولا الشعبين في الراهن ولا في المستقبل.
خطوات الضمير اللبناني في العلاقة مع السوريين، ليست طارئة، ولا ظرفية، إنما هي جزء من تاريخ العلاقات السورية - اللبنانية، وخصوصاً في الحالات التي كانت تجور فيها السلطات ضد مواطنيها أو ضد البلد الآخر ومواطنيه، وهو سلوك طبيعي، تكرر في الماضي البعيد، كما في العقود الماضية، وكلف أصحاب الضمير، ولا سيما السياسيين منهم أثماناً باهظة في بعض الأحيان. فبعد اندلاع الأحداث اللبنانية في عام 1975، سعى نظام الأسد في سوريا إلى إحكام قبضته على لبنان أرضاً وشعباً، ثم قرر أن يحول سيطرته في لبنان إلى احتلال مباشر، فدفع قواته للدخول إلى لبنان في صيف عام 1976، وقد قوبلت الخطة باعتراضات سياسية وأخلاقية من جانب قطاع واسع من السوريين، وشارك في الاعتراضات كتاب ومثقفون وفعاليات بينها أحزاب سورية، كان الجوهري في اعتراضاتها، حق اللبنانيين في تقرير مصيرهم ومعالجة شؤون بلدهم دون تدخلات خارجية، ويذكر الذين عاصروا تلك الفترة، أن اعتراضات السوريين ضد رغبة نظام الأسد في احتلال لبنان، كانت بين مقدمات الهجوم على القوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية السورية المعارضة، فتم زج كثير من القيادات والكوادر في سجون ومعتقلات النظام، وجرى تشريد مئات منهم في بلدان الشتات وبينها لبنان.
قد يكون الأهم في علاقات الضمير السورية - اللبنانية الأقرب، ما حدث في مايو (أيار) من عام 2006، حيث وقع مئات من المثقفين السوريين واللبنانيين ما عرف باسم «إعلان دمشق - بيروت، بيروت - دمشق»، وطالبوا فيه بوقف تدخلات نظام الأسد في لبنان، ووقف عمليات اغتيال الناشطين والسياسيين في لبنان، وتصحيح العلاقات السورية - اللبنانية، بحيث تقوم على احترام استقلال لبنان وسيادته، وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، ومعالجة القضايا المشتركة بين البلدين بمستوى الندية.
إن أهمية تلك الخطوة، تنبع من توقيتها كما من مضمونها. ففي المضمون كانت أول نداء علني سوري - لبناني لإعادة صياغة العلاقات بين البلدين والشعبين خارج إطار السيطرة السورية والتبعية اللبنانية، التي كرسها نظام الأسد العسكري - الأمني ما بين 1976 و2005، وإعادة بنائها على أسس موضوعية ووفقاً للقانون الدولي والمصلحة المشتركة للشعبين والبلدين، وهذا من شأنه تعزيز العلاقات الخاصة متعددة الجوانب بين سوريا ولبنان.
وأهمية الخطوة من حيث توقيتها، أنها جاءت في فترة نهوض شعبي سوري - لبناني في مواجهة نظام الأسد في سوريا وامتداداته في لبنان، الأمر الذي كرسته تطورات ربيع دمشق السوري بحراكيه الثقافي والسياسي، وانتفاضة الاستقلال اللبنانية التي أعقبت اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
تعيد خطوة اللبنانيين في بيانهم الأخير الروح لتضامن اللبنانيين مع السوريين الذين لا يواجهون تداعيات سياسة نظام الأسد الدموية فقط، بل يصبحون فريسة سياسة امتداداته السياسية والأمنية في لبنان، وهي تعكس في الوقت ذاته طموح اللبنانيين إلى بلد حر ديمقراطي ومستقل، يؤمن بحقوق الإنسان ويحرص على العمل بها.