بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

سلام الأقصى... هل استعصى؟

الأرجح أن الإجابة هي: نعم. من الواضح لكل ذي عقل راجح أن دولة إسرائيل ليست راغبة في تحكيم منطق العقل عندما يتعلق الأمر بمجمل طريق السلام مع الفلسطينيين، ثم خصوصاً حين يشتعل التوتر بأي من الأماكن المقدسة. عَنتُ إسرائيل - بمختلف حكوماتها، وتباين أطياف ساستها - إزاء الاستخفاف بأهمية العامل الديني عند الفلسطيني، أوصل، وسوف يوصل دائماً، إلى مزيد من التوترات. النتيجة أن العقبات ستزداد تعقيداً أمام أي احتمال سلام. يحصل هذا التعنّت المُستخف بالمشاعر الدينية منذ وطئت أقدام الاحتلال أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد اتخذ أشكالاً عدة منها محاصرة الحرم الإبراهيمي في الخليل بمستوطنات المتطرفين غير المُخفين شديد العداء لكل ما هو غير يهودي، بل وللتيار الليبرالي بين الإسرائيليين. ومنها، ثانياً، مسلسل حفريات حول المسجد الأقصى، ينشط حيناً فيفجِّر مواجهات وتوتراً، ثم يهدأ أوقاتاً، فقط كي يفسح المجال أمام استفزازات متطرفي المستوطنين في باحة الحرم الشريف. ومنها، ثالثاً، محاولات لإلغاء الوجه العربي للقدس الشرقية شُرِع فيها منذ سقطت شوارع المدينة العتيقة تحت دوّي خامس يونيو (حزيران) 1967، عندما أفاق العرب والمسلمون على وهم خداع الذات، فإذا كل ما قيل عن قرب تحرير فلسطين، منذ الفزع المُدوي لنكبة 1948 يتبعثر فجأة أمام غبار هزيمة هزائم العالمين العربي والإسلامي المعاصرة.
هذا واقع قائم، تشهد عليه وقائع تُمارس على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ محاولة إحراق المسجد الأقصى (21/8/1969)، وصولاً إلى مجزرة باروخ غولدشتاين خلال صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي (25/2/1994) وليس انتهاءً باستفزاز اقتحام آرييل شارون ومعه ستة أعضاء كنيست موالين له (28/9/2000) باحة الحرم القدسي، محاطين بحشد من الجنود المدججين بالأسلحة. لكن ساسة إسرائيل وجنرالاتها غير مستعدين للإقرار بمسؤوليتهم عن نشوء ذلك الواقع، وما ينتج عنه من تأثير دموي يدفع ثمنه الفلسطينيون والإسرائيليون. أسوأ من غياب استعداد الإقرار، ألا يجد بعض ساسة إسرائيل أي حرج في استخدام وصف «فرية»، رداً على التحذير من خطورة تبديل معالم القدس الشرقية، إضافة للتنبيه بأن تغيير الوقائع بغرض تهويد المدينة مخالف للمواثيق الدولية.
يبدو أن استقواء إسرائيل بمنطق القبضة الحديدية أوصل ساستها إلى وهم الاقتناع أن في وسعهم، مع مرور السنين، فرض إرادتهم، ليس فحسب بشأن رؤاهم لمسار طريق السلام، بل أيضاً في تشكيل الذاكرة الفلسطينية، وإجبار الفلسطينيين على رمي مجمل تاريخهم وراء ظهورهم، ومن ثَمّ القبول بواقع جديد يزعم أن قدس ما قبل 1967 غدت مجرد ذكرى وبضعة أحياء، أما «أورشليم» فهي «العاصمة الأبدية» للإسرائيليين وحدهم، وأن المسجد الأقصى ليس سوى أحد الجوامع، بينما «الهيكل» هو المقدس الوحيد للمؤمنين اليهود. بالطبع، سخرّت المؤسسة الإسرائيلية كل ما أمكنها أن تسخّر لترويج هكذا مزاعم، فضلاً عن أنها تجاهلت حقيقة أن القدس الشرقية تخص العرب المسيحيين، وأتباع المسيحية في العالم كله. بالمقابل، قدم العرب والمسلمون أقل بكثير مما بوسعهم تقديمه لأجل وقف تمدد التزوير الإسرائيلي. مثلاً، تحت ذريعة «رفض التطبيع» تُركت القدس الشرقية وحدها تواجه زحف الاستيطان، ومحاولات التحايل لمصادرة أملاك الفلسطينيين، بينما كان بالوسع، ولا يزال، تشجيع زيارة المدينة المقدسة، والحث على الاستثمار في بنيتها الاقتصادية الفلسطينية، قدر المُستطاع، بدل الاكتفاء بإصدار بيانات استنكار وتنديد عبر المحافل الدولية.
لو أن منطق تحكيم العقل أدرك ساسة إسرائيل منذ وضعوا أيديهم على القدس الشرقية، لأدركوا أن تثبيت أمن وسلام الأماكن المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين، هو في صالح الإسرائيليين أنفسهم. المعادلة ليست بحاجة إلى ذكاء خارق. كل مساس بما هو مقدس سوف يشعل الحرائق. وحين تندلع النار وتسيل الدماء على أساس الدفاع عن المُقدّس، فقد يصعب حصرها بين الفلسطينيين وجنود إسرائيل. قد تمتد أعمال الانتقام فتطال سفارات تل أبيب، وقد تصيب بعض سياح إسرائيليين. ورغم أن هكذا انتقام مرفوض، مثلما أن التشجيع على عمليات عنف فلسطينية في الأقصى أو غيره من أماكن العبادة، مرفوض كذلك، رغم ذلك، يبقى من الصحيح القول إنه إذا استعصى سلام الأقصى، فالأرجح أن هذه الأرض لن تنعم بأي سلام، حتى يشاء لها ذلك خالقٌ خصّها بنِعَم دياناته السماوية الثلاث، أليست مشيئته نافذة، وإرادته هي الغالبة؟ بلى.