سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الرجل الذي تأخر في الوصول إلى الصيف

اسمحوا لي أن أختم حكايات الصيف بقصة رجل ليس نجماً، ولا أديباً، ولا شهيراً. لم تكن قصته واردة، لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا في الربيع. فهو من فصل واحد لا أعرف ماذا أسميه، ولا أجد أنه من الضروري أن أبذل جهداً للوصول إلى تسمية.
في أي حال، لا بد من سرد القصة من نهايتها. ثمة قصص كثيرة تبدأ هكذا، لأن نهايتها مثل بدايتها، مثل مرحلتها الوسطى، لا تعني شيئاً كثيراً لأحد. ثمة أعمار، طالت أم قصرت، لا يتغير فيها شيء، ولا تُغيّر في شيء. وفي كل حال، هذه حكايته. قبل أسبوع واحد شاهدته في «كان». هو على رصيف وأنا على الرصيف المقابل. كان الوقت عصراً والطقس حراً، وهو وقت القيلولة في برنامج الصيف، وليس التعرض للشمس، أو ظلها القائظ.
يرتدي قميصاً أبيض وسروالاً أبيض وقبعة رياضية بيضاء. ولولا امتلاؤه، أو بالأحرى تفاقم الامتلاء قليلاً، لبدا سائحاً أنيقاً وميسوراً ومتمرساً في عادات الصيف، لا جديداً عليها. غير أن شيئاً فيه، لعلّه طريقته في المشي، جعله يبدو من حُدثاء النعمة «الكانية»، أو ربما طريقته في اعتمار القبّعة. أو خطوته غير الواثقة بكل وضوح، لشدة ما يحاول الإثبات، أنه شديد الوثوق، عريق في طقوس المدينة، ولطالما جاء إلى هنا من قبل، سبح في النهار، وارتاح على شرفة «الكارلتون» في المساء، وتدافع حوله النوادل، وهم يحسبون في عقولهم حصة كل منهم من بذخه.
لكن خطواته تكشفه، ونظراته الباهتة تفضحه. هذه زيارته الأولى إلى «كان». قبل ذلك، كان يعرفها بالاسم. كما تقول «الأمازون» كما تقول «كان». كل سنة كان يعد نفسه للسفر. لكن فجأة تبرز أولوية أخرى. ولا حاجة لشرح معنى الأولويات: مال. فلوس. دراهم. أياً يكن البنك المركزي الذي صدرت عنه.
يُفهم من ذلك أن «كان» لم تكن أولوية عنده لكثرة ما احتاجت به الأولويات. فعندما جاء للعمل في الخليج وهو في الثلاثين من العمر، لم يكن الصيف فصلاً مختلفاً. أولاً، لأنه كان في الثلاثين، السّن التي تعصر فيها الشمس ويشرب عصيرها. ثانياً، لأن صيف لبنان لم يكن يبقي تشوقاً إلى أي شيء آخر. وأحياناً فقط، كانت تخطر له «كان» من أجل أن يعود منها ببعض الحكايات، صحيحة أو متمناه. أو أن يشاهده أحد هناك، فيعود ويروي للرفاق من شاهد على رصيف «الكروازيت»، الشمالي أم الأيمن.
وعندما يغرق سعيداَ في الأفكار «الكانية» تقاطعه على الفور أفكار الأولويات: جمع ما يكفي لشراء شقة للأهل. نقل الأشقاء الصغار إلى مدرسة أفضل. تغيير سيارة الوالد من «رينو» إلى «مرسيدس».
إلى اللقاء..