وجدت روسيا نفسها محصورة بين الأمل في ضمان معقل دائم لها داخل الشرق الأوسط، والخوف من توارث موقف تستحيل تسويته، الأمر الذي دفعها إلى محاولة إعادة تقييم سياستها تجاه سوريا مع دعم محتمل من جانب إدارة ترمب في واشنطن.
ويتمثل الملمح الأساسي في استراتيجية روسيا الآخذة في التشكل، بمحاولة تغيير الخطاب السائد حول سوريا من رسم صورة حرب أهلية دائرة إلى خطاب يطرح أزمة إنسانية طارئة تستحق مساعدات دولية هائلة.
من جانبهم، يرى محللون غربيون أن الخطاب الجديد يملك ميزة تجنب القضايا الشائكة، مثل مستقبل الرئيس بشار الأسد والتشارك في السلطة في إطار حكومة مستقبلية.
أما الهدف الآخر لروسيا فيتمثل في تحويل الاهتمام الدولي بعيدا عن التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ربما لا تثير قلق الأسد فحسب، وإنما كذلك القوات الروسية داخل سوريا.
ولدى إلقاء نظرة خاطفة على الخطاب الروسي الذي طرحه الدبلوماسي الروسي البارز إيفغيني زاغايانوف في وقت سابق هذا العام، في إطار ورقة عرضها على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويقترح في الورقة مشروعا لتطهير حقول الألغام التي زرعها تنظيم داعش داخل وحول صحراء تدمر. وقد أرجأ المجلس مناقشة الورقة بعدما شدد أعضاء على أن تناول المشكلة الإنسانية في سوريا على نحو جاد يتطلب التخلص من العقبات التي وضعتها حكومة الأسد في الطريق.
وبعد بضعة أسابيع، أخبر الدبلوماسي الروسي رفيع المستوى، فلاديمير سفرونكوف، المجلس بأنه «لا يمكن النزول بقضية المساعدات الإنسانية لسوريا إلى مسألة الحواجز والمناطق التي يصعب الوصول إليها». ومنذ ذلك الحين، عكف خبراء من موسكو على ما أطلقوا عليه «خطة كبرى للإغاثة وإعادة بناء سوريا». وتقوم الخطة على تصور مشروعات منفصلة لإعادة إطلاق وتحفيز صناعات حيوية، مثل إنتاج النفط والغاز الطبيعي واستخراج الفوسفات وإعادة فتح طرق للتجارة الإقليمية.
الملاحظ أن روسيا طرحت بالفعل خطة تقدر تكلفتها بأكثر عن 300 مليون دولار لنزع 40 في المائة من الألغام من الأراضي السورية في غضون 22 شهراً. وتبعا لديفيد بتر، خبير في الشأن السوري لدى «تشاتام هاوس» في لندن، فإن الكرملين بدأ بالفعل في التواصل مع شركات روسية لاختيار التعاقدات المناسبة في جميع هذه المجالات.
وتدور الخطوة المقبلة في إطار استراتيجية روسيا الجديدة حول توسيع نطاق «مناطق تخفيض التصعيد»، المقتصرة حاليا على خمس أو ست مناطق محلية بجنوب البلاد، إلى أجزاء أخرى من سوريا، مع النظر إلى محافظة إدلب باعتبارها الأولوية التالية.
في هذا الصدد، قال الباحث الإيراني أحمد الأنصاري: «تحاول روسيا تجميد الوضع السياسي وواقع السيطرة على الأرض. وبمجرد إقرار منطقة خفض تصعيد، لن تصبح لمسألة من له السيطرة الاسمية، أهمية تذكر. وبمرور الوقت، ستتركز أنظار الناس على مشروعات التشييد الممكنة، وليس طبيعة السلطة القائمة في دمشق». إلا أن استراتيجية «تجميد المواقف» المقترحة تتطلب أمرين على الأقل: حد أدنى من الإدارة البلدية ووجود شرطي لفرض حد أدنى من الأمن.
من ناحيتها، تحاول موسكو التعامل مع المشكلة الأولى من خلال خطة لإقرار مجالس بلدية مؤقتة في «مناطق تخفيض التصعيد». ومن المتوقع أن يزور فريق من الخبراء الإداريين الروس سوريا الشهر المقبل للمعاونة في جهود التخطيط اللازمة.
ومن شأن ذلك، تصدير روسيا كحائط صد بين نظام الأسد الذي سيبقى على مسافة بعيدة في دمشق والذي يحظى بسيطرة اسمية، وقوى المعارضة المسيطرة فعليا على أرض الواقع. وسعيا لحل المشكلة الثانية، تتولى روسيا بالفعل تدريب وحدات خاصة من الشرطة لنشرها في سوريا. وتبعا لما أفادته مصادر في موسكو، من المتوقع أن تصل المجموعة الأولى من هذه الوحدات التي يبلغ عدد أفرادها 80 ضابطا الأراضي السورية في سبتمبر (أيلول) بعد خوضهم دورة خاصة، بما في ذلك التدريب على اللغة العربية.
وتبعا لما أفادته مصادر في موسكو، فإن الرئيس فلاديمير بوتين أثار الخطوط العريضة لـ«الخطة الكبرى لإغاثة وإعادة بناء سوريا» خلال لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في هامبورغ. ويعتقد الروس أن ترمب، بخلفيته بمجال البناء والتشييد والعقارات، من المحتمل أن يقدر «الخطة الكبرى» تلك أكثر من السياسيين العاديين.
أيضاً، روسيا تأمل في أن يشكل تهميش إيران داخل سوريا، الأمر المشار إليه ضمنيا في استراتيجية موسكو، حافزا إضافيا بالنسبة لترمب الذي يبدو عاقدا العزم على تحجيم الدور الإيراني من خلال سبل أخرى بخلاف التدخل العسكري.
من جانبهم، يقدر خبراء غربيون تكلفة برنامج إعادة الإعمار الشامل في سوريا بما يزيد على 1.2 تريليون دولار، الأمر الذي لا تملك روسيا بوضعها الاقتصادي المتردي وتراجع أسعار النفط توفيره. في الواقع، في وقت سابق من الشهر أشارت رئيسة مكتب المحاسبة العامة الروسي تاتيانا غليكوفا، إلى أن عدد الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفع بمقدار مليونين، ليصل الإجمالي إلى 22 مليون نسمة عام 2016 مقارنة بالعام السابق.
وتبعا لما أفاده البروفسور بجامعة موسكو أوليغ بوكليميشيف، فإنه حتى إذا استعاد الاقتصاد الروسي نموه عام 2017، ستبقى موسكو في وضع لا يمكنها من الالتزام بواجباتها الاجتماعية مع إنفاق أموال ضخمة على مشروعات ترتبط بالسياسة الخارجية، مثل المشاركة في سوريا.
أيضاً، ربما تسيل «الخطة الكبرى» المتعلقة بإعادة بناء سوريا لعاب الاتحاد الأوروبي في وقت تبحث دوله بدأب عن محفز لاقتصاداتها الجامدة. وطبقا لما ذكرته مصادر فرنسية، فإن بوتين أثار هذه القضية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اجتماعهما في فرساي، مايو (أيار) الماضي.
أيضاً، تروق «الخطة الكبرى» لتركيا التي تعرضت شركات الإنشاء والتعمير لديها لخسائر فادحة، خصوصا بعد إرغامها على مغادرة ليبيا في أعقاب سقوط نظام معمر القذافي. بجانب ذلك، تواجه الشركات ذاتها بيئة معادية داخل دول عربية أخرى، وكذلك داخل الاتحاد الأوروبي. ومن ناحيتهما، يبدو الأردن ولبنان حريصين على تدفق موارد مالية جديدة على اقتصاد المنطقة من خلال «الخطة الكبرى» السورية. وخلال لقائه الرئيس ترمب في واشنطن، أعرب رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري عن أمله في أن يجري النظر إلى بلاده كنقطة انطلاق لإعادة بناء سوريا.
ومع أنه لا يزال من السابق لأوانه التعرف على الصورة الكاملة للاستراتيجية الروسية في سوريا، فإنها تبدو خليطا من تصورات سياسية وأمنية واقتصادية مختلفة قد تبدو أحيانا متناقضة.
ومن المتوقع أن تحد الاستراتيجية الروسية من دور بقايا نظام الأسد، ليصبحوا مجرد حكومة شبح، الأمر الذي قد يبهج خصوم الأسد، لكنه سيترك المسألة المحورية المتعلقة بمن سيحكم سوريا، من دون تسوية. ومع أن روسيا ربما تتمكن من تأمين المساحات الصغيرة من الأراضي السورية اللازمة، لتأمين قاعدتها التي بنتها على البحر المتوسط، فإنها تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية التي تمكنها من توفير قدر مقبول من الاستقرار بمختلف أرجاء البلاد. ومع انشغال إيران وتركيا في خلق جيوب لهما في الأراضي السورية، فإن تمزق سوريا ربما يصبح أمرا واقعاً.
روسيا تغوي العالم بخطة جديدة بخصوص سوريا
تحرفها من حرب أهلية إلى أزمة إنسانية تستحق مساعدات دولية هائلة
روسيا تغوي العالم بخطة جديدة بخصوص سوريا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة