عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

العراق وامتحان استفتاء كردستان

إذا سارت الأمور وفقا لما هو مقرر ومعلن، فإن استفتاء إقليم كردستان العراق على الاستقلال وتقرير المصير سيجرى في الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) المقبل، الأمر الذي ستكون له تداعياته الواسعة على الصعيدين المحلي والإقليمي، وآثاره أيضا على كثير من الحسابات الدولية. وعلى الرغم من اقتراب الموعد، فإن الأمر لا يحظى بالمستوى المتوقع والمطلوب من النقاش، وكأن الناس تتمنى أن يتلاشى الموضوع من تلقاء نفسه، أو أن التمنيات وحدها والعبارات الإنشائية ستمنع انفصال الأكراد.
هناك بالطبع من يرى أن الأكراد لن يمضوا في طريق الانفصال، وأنهم يناورون بورقة الاستفتاء ويريدون استخدامها كورقة ضغط على الحكومة المركزية في بغداد للحصول على «صفقة أفضل» وسلطات أكبر للإقليم، أو للحصول على بعض مطالبهم في المناطق المختلف عليها، خصوصا في كركوك. لكن هل من المنطقي تصديق أن الأكراد يناورون بحلمهم القومي، ويريدون استخدام خطوة الاستفتاء فقط للضغط على بغداد من أجل مكاسب وقتية أو تنازلات محدودة في المناطق المتنازع حولها. فالأكراد في أيديهم أوراق كثيرة كان يمكن لهم استخدامها لو أن الأمر مجرد مقايضات محدودة على السلطات أو الأراضي، كما أنهم يتمتعون بسلطات واسعة أصلا وإقليمهم يتمتع بصلاحيات متزايدة منذ التسعينات، رسخها دستور 2005 في ظل الحكم الذاتي، وباتوا بحكم الأمر الواقع وفي ظل الأوضاع المتدهورة في العراق يعيشون وضعا أقرب إلى الاستقلال.
طموحات الأكراد أكبر من ذلك في تقديري، ولكنهم لأسباب مفهومة يتوخون التحرك بحذر، لكي لا يجهضوا حلمهم أو يفرطوا في فرصة يرونها تاريخية اليوم. لذا سعوا لطمأنة بغداد والأطراف الإقليمية قائلين إن الاستفتاء مجرد عملية لاستطلاع الرأي بشأن مستقبلهم، وأن نتيجته لا تعني إعلان الانفصال والاستقلال، ولا ضم كركوك أو أي مناطق أخرى متنازع عليها. وفي هذا الصدد أعلن رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني أن الاستفتاء «لا يعني أن يعلن شعب كردستان دولته فور ظهور النتائج، بل يعني أن يعرف الجميع ما الذي يريده شعب كردستان لمستقبله، وكيف سيختار مصيره».
الأكراد يدركون أن هناك معارضة في الداخل لأي خطوة في طريق الانفصال، وقد سمعوا هذا الكلام في تصريحات كثيرة من المسؤولين العراقيين، خصوصا من عدد من رموز التيار الشيعي. كما أنهم يعرفون أن تركيا وإيران تعارضان بشدة خطوة الاستفتاء وتعتبرانه تهديدا «لأمنهما القومي»، لأنه سيعزز الطموحات القومية للأكراد في البلدين وفي سوريا أيضا التي يعزز الأكراد فيها من وضعهم على الأرض مستفيدين من الدعم الغربي ودورهم في محاربة «داعش». من هذا المنطلق فإن أكراد العراق يتوخون الحذر في خطواتهم ولا يريدون الاندفاع في خطوة إعلان الاستقلال بمجرد إعلان نتائج الاستفتاء التي تبدو محسومة لصالح خيار الانفصال بنسبة كبيرة. ولذلك يتمسكون في تصريحاتهم بأنهم لا يريدون إعلان الاستقلال الآن، مما يعني أن النتيجة ستكون بمثابة «إعلان نية»، وورقة في يد الأكراد لفتح باب للمفاوضات حول انفصال بالتراضي عاجلا أم آجلاً.
العديد من الأطراف الدولية تنصح الأكراد أيضا بتوخي الحذر وعدم المضي في خطوة إعلان الانفصال من طرف واحد، لأن ذلك من شأنه أن يشعل الأمور، وقد يقود إلى مواجهات واسعة تجر إليها تركيا وإيران. وقال الأميركيون إنهم على الرغم من تقديرهم لتطلعات إقليم كردستان فإنهم يرون أن الاستفتاء الآن سيصرف الانتباه عن «أولويات أكثر إلحاحا» مثل حرب «داعش».
أما روسيا فقد أعربت عن أملها في أن تأخذ أربيل في الحسبان ما يترتب على الخطوة «من نتائج سياسية، وجيوسياسية، وديموغرافية، واقتصادية، خصوصا أن المسألة الكردية تتجاوز حدود العراق».
الحكومة العراقية من جانبها اكتفت حتى الآن بتكرار رفضها للاستفتاء، قائلة إنها ستعارض أي خطوة من جانب الأكراد لإعلان الاستقلال، لأن مستقبل العراق ليس خاصا بطرف واحد. كما اعتبرت الخطوة غير دستورية ولا قانونية، مشيرة إلى الدستور الذي يعرف العراق بأنه بلد ديمقراطي اتحادي، ذو سيادة وطنية كاملة. لكن هل يراعي أحد حقا الدستور في العراق اليوم؟
الحكومة العراقية تحسن صنعا لو أنها دخلت في حوار جاد ومعمق مع الأكراد ومع كل المكونات الأخرى، من واقع الإقرار بالحقوق لا رفضها، ومن منطلق الرغبة في البحث عن صيغ تعيد الاستقرار المفقود، وتطمئن كل المكونات بضمان المساواة والمشاركة الكاملة، وكبح غول الطائفية التي هي المهدد الحقيقي والأكبر لوحدة العراق وسلامته، وللتعايش بين أهله. فالبلد لا يحتاج مجرد كلام إنشائي عن الاعتراف بالتنوع، وعن ضرورة التعايش، بل إلى ما يترجم ذلك على أرض الواقع. لكن ما يجري في العراق لا يبعث على الاطمئنان في الواقع، ولن ينجح في إقناع الأكراد بالتخلي عن حلمهم القومي، وما الاستفتاء إلا ترجمة لمعنى أن تفشل الدول في بناء مواطنة حقيقية ووطن يرسخ قيم التعايش والمساواة والانتماء الحقيقي.