ليونيد بيرشيدسكي
TT

العقوبات الأميركية هدية جديدة لبوتين

يميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرد على العقوبات الغربية الأخيرة، لكن بطرق غير متوقعة أو منتظرة من أصحاب هذه العقوبات في المقام الأول: وذلك من خلال الذهاب إلى المواطنين الروس الذين يمكنهم مساعدة بلادهم ويريدون بناء علاقات قوية مع الغرب. وتوجيه الأوامر في الأسبوع الماضي للبعثة الدبلوماسية الأميركية في روسيا بتخفيض عدد الموظفين فيها إلى 455 موظفاً فقط – وهو نفس عدد موظفي البعثة الدبلوماسية الروسية في الولايات المتحدة – هو من آخر الأمثلة على ذلك.
وفي عام 2012، عندما أقر الكونغرس الأميركي قانون ماغنتسكي، الذي يفوض الحكومة بفرض حظر السفر وتجميد الأصول على المسؤولين الروس الضالعين في انتهاكات لحقوق الإنسان، ولقد ردت روسيا على ذلك بحظر تبني المواطنين الأميركيين للأطفال الروس. وكان الرد غير المتوازي مجافياً للعقل من وجهة نظر الكثير من المواطنين الروس، واحتج عليها الآلاف منهم في العاصمة موسكو. فأولئك الأطفال الذين يبتغي غير الروس تبنيهم – وهم في العادة من يعانون إعاقات شديدة – قد تقدموا بطلبات التبني الخارجي، ولقد كان قراراً قاسياً وغير ذي معنى بحرمانهم من فرصة بسيطة لحياة أفضل. بيد أن التلفزيون الحكومي الروسي شنّ حملة موسعة في ذلك الوقت يزعم من خلالها تعرض الأطفال الروس للمعاملة القاسية من قبل عائلات التبني الأميركية مع التأكيد، كالمعتاد، على الكرامة الوطنية الروسية. وأظهرت استطلاعات الرأي في ذلك الوقت أن نصف المواطنين الروس يؤيدون مشروع القانون الانتقامي، بينما يعارض أقل من الثلث تمرير هذا القانون.
وفي عام 2014، وفي رد على العقوبات المتعلقة بأوكرانيا من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، حظرت روسيا استيراد قائمة مطولة من الأطعمة الأوروبية. ولم يكن التأثير على منتجي الأغذية الأوروبية كبيراً: فلقد تمت الاستعاضة عن ذلك وإلى حد كبير بزيادة الصادرات إلى أسواق دولية أخرى، وعن طريق تدابير الدعم الأوروبية المباشرة لبعض الدول والقطاعات. ولكن في كل مرة استقبل زواراً من موسكو في برلين، أراهم يخزنون الجبن الألماني كي يأخذوه معهم إلى الوطن.
والناس الذين يفتقدون للجبن الفرنسي هم من الأقلية الروسية المتغربنة نسبياً. وأغلب المواطنين الروس أحبوا الحملة التلفزيونية الحكومية الجديدة (والتي استكملت بصور من المواد الغذائية المستوردة بشكل غير قانوني من الخارج والتي دهستها الجرارات الزراعية) التي أخبرتهم بأن التدابير المضادة للعقوبات الغربية (المقاطعة) كانت مفيدة للزراعة الوطنية الروسية. وقال ثلثا الشعب الروسي إن الحكومة كانت على حق في فرض حظر استيراد الأطعمة من الخارج. واعتقد 12 في المائة فقط منهم بأن تلك القرارات تضر الاقتصاد الروسي بأكثر من الغرب.
والآن، ومع موافقة الكونغرس الأميركي على مجموعة جديدة من العقوبات الاقتصادية، والتي تقنن وتشدد على بعض القيود المفروضة سلفاً، يريد الرئيس الروسي من البعثات الدبلوماسية الأميركية – أي السفارة في موسكو والقنصليات في سان بطرسبرغ، ويكاترينبرغ، وفلاديفوستوك – أن تقلل من عدد الموظفين الأميركيين. وهناك نحو 300 شخص في البعثات الأميركية من الموظفين في الولايات المتحدة، والباقي، وهم أكثر من 900 موظف، هم من الموظفين المحليين، وأغلبهم من المواطنين الروس الذين يقومون بأعمال فنية أو تقنية. ومن المرجح أن تختار الولايات المتحدة أن تستبقي أغلب موظفيها الدبلوماسيين (والجواسيس بطبيعة الحال) في أماكنهم، وتتخلص من الموظفين المحليين. مما يعني فقدان المئات من الوظائف للمواطنين الروس. ولكن، الأكثر من ذلك، فإن تلك التخفيضات سوف تلحق الضرر بمقدرة الروس على السفر إلى الولايات المتحدة، كما أشار السفير السابق مايكل ماكفول في تغريدة أخيرة على «تويتر».
وحتى اليوم، فإن المواطن الروسي المتقدم للحصول على تأشيرة زائر للولايات المتحدة من السفارة في موسكو، لا بد أن ينتظر 46 يوماً لتحديد المقابلة الإجبارية مع القنصل الأميركي. وفترات الانتظار هي أقل منها في قنصليات سان بطرسبرغ، ويكاترينبرغ، وفلاديفوستوك، لكن من المرجح أن تتساوى في الأيام المقبلة مع القاعدة المعمول بها في السفارة. وفي موسكو، لا بد أن ينتظر الناس فترات طويلة تجعل من التخطيط للسفر أمراً مستحيلاً.
وإذا أراد الرئيس الروسي لإجراءاته الانتقامية أن تكون متوازية، لكان وضع في اعتباره أن خدمات القنصلية الروسية في الولايات المتحدة قد أصدرت 86 ألف تأشيرة في عام 2015، في حين أن البعثات الأميركية في روسيا قد أصدرت 183 ألف تأشيرة في السنة المالية لعام 2016، لكن السيد بوتين لا يعبأ بنوعية المواطن الروسي الراغب في السفر إلى الولايات المتحدة. ولقد أصدر تحذيراته المتكررة إلى المسؤولين وضباط إنفاذ القانون من السفر إلى البلدان الغربية، حيث يسهل استهدافهم من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية، وحيث يمكن مصادرة أصولهم بموجب مجموعة من العقوبات المفروضة أو غيرها. وأولئك الذين يرغبون، رغم ذلك، في السفر يُنظر إليهم تقريباً كممثلين للطابور الخامس الموالي للغرب – تماماً كمثل عشاق الجبن والأقلية التي تعتقد بأن اليتامى الروس يمكن أن يحصلوا على حياة أفضل في الولايات المتحدة من الوطن.
إن هذا النمط من ردود الأفعال الروسية يوفر جزءا مهما من الإجابة عن سؤال متكرر في أغلب الأحيان: لماذا تعد روسيا منشغلة بالعقوبات الغربية على الرغم من عجزها الواضح عن تحقيق الأهداف الوطنية المعلنة؟
من المحال معرفة الافتراضات المنافية للواقع – أي ما كان بوتين ليفعله في حالة الغياب التام للعقوبات الغربية – غير أن العقوبات لم تردعه عن دعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، والاستحواذ على شبه جزيرة القرم، أو السماح بشن الحملات الإلكترونية ضد البلدان الغربية. كما أن العقوبات لم تكن مؤثرة للغاية على أصدقائه الأثرياء. فلم تكن هناك أي مصادرات رفيعة المستوى لأصولهم منذ أن جمدت إيطاليا مبلغ 30 مليون دولار من الأصول العقارية التي يمتلكها شريك بوتين الأسبق في رياضة الجودو أركادي روتنبرغ – وهو مبلغ لا قيمة له بالنسبة لصاحب البلايين. كما فشلت العقوبات الغربية كذلك في إلحاق الكثير من الضرر بالاقتصاد الروسي، الذي تمكن من تخفيض تعرضه الكبير للديون الغربية، ويعمل بكل جدية على زيادة الاكتفاء الذاتي التكنولوجي في مجالات رئيسية، مثل النفط والغاز الطبيعي.
لكن، كما أن العقوبات الأميركية كانت في المقام الأول لعباً على الجماهير المحلية، كوسيلة للرد على قضية ترمب - روسيا الشهيرة، فإن ردود الكرملين تدور حول استخدام العقوبات في الاستهلاك الإعلامي المحلي كذلك. فهي تعتبر من الأدلة الدامغة على «الرهاب الروسي» – وهو المصطلح المفضل لدى المسؤولين الروس في توصيف ما يعتبرونه المعاملة غير المنصفة إزاء روسيا، والرغبة المكبوتة لكبح جماحها بدلاً من التعاون معها. بل إن غضب الكرملين ليس إشارة على أوجاعه بالمرة، بل إنها مجرد لعبة استراتيجية محسوبة.
فإن إعلان الغضب من العقوبات الغربية يعزز كثيراً من الرسالة الداخلية للسيد بوتين حول الدولة المحاطة بالأعداء من كل جانب، والتي يحاول تقويض أركانها الخونة من المواطنين الروس الذين خربت عقولهم ونفوسهم من تأثير الغرب المعادي. والهدف الرئيسي لهذا الغضب المعلن هو الجمهور الروسي، والمقصود منه البعث برسالة واضحة مفادها أن البحث عن أصدقاء، أو فرص، أو مجرد اللهو واللعب في الغرب لا جدوى منه على الإطلاق، وربما قد يعتبر من قبل الأعمال العدائية ضد الوطن الأم!
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»