عبد الكريم غلاب جمع بين النضال والصحافة والإبداع

الأوساط الثقافية والصحافية والسياسية المغربية تنعى صاحب «المعلم علي»

عبد الكريم غلاب
عبد الكريم غلاب
TT

عبد الكريم غلاب جمع بين النضال والصحافة والإبداع

عبد الكريم غلاب
عبد الكريم غلاب

«الرائعون يرحلون تباعاً»، هكذا قدم عادل بن حمزة، الناطق الرسمي باسم حزب الاستقلال المغربي، لخبر رحيل الكاتب والأديب والسياسي المغربي عبد الكريم غلاب، الذي وافته المنية ليلة الأحد، عن سن 98 عاماً. وأضاف: «غادرنا إلى دار البقاء صاحب (مع الشعب) الأستاذ الجليل والصحافي اللامع والكاتب والروائي عضو مجلس الرئاسة بحزب الاستقلال السي عبد الكريم غلاب صاحب روائع (المعلم علي) و(دفنا الماضي)».
نفس نبرة الحزن والأسى، بخصوص وفاة «المناضل الاستقلالي الكبير، والصحافي والأديب الأعز»، حملهما موقع جريدة «العلم»، لسان حزب الاستقلال، الذي وصف الحدث بـ«المناسبة الأليمة» و«الرزء الفادح والخطب الجلل».
من جهته، نعى اتحاد كتاب المغرب رئيسه السابق، فقال عنه إنه «كان مؤسِّساً في كل شيء، في النضال والصحافة والسياسة والأدب، إذ اجتمع فيه ما تفرق في غيره، فكان بحق مؤسسة قائمة، ومن طينة كبار رجالات المغرب الذين حاربوا في مختلف الجبهات، وتركوا بصمتهم في كل ما لامسوه وجربوه. هكذا، يمكن الحديث باطمئنان على أن الرجل صاحب «مات قرير العين»، لم يخلف وراءه مساراً حافلاً بالنضال والعطاء والإنتاج فقط، بل خلف لنا مكتبة كاملة ومدرسة قائمة، تمتد بين الإبداع والتاريخ، وبين النضال السياسي وبناء ثقافة وصحافة وطنيتين حديثتين».
وجاء في البيان، أن «اتحاد كتاب المغرب والوطن برمته، تلقيا بأسى وحزن بالغين، نبأ وفاة رئيس الاتحاد الأسبق الأديب والصحافي والمؤرخ والسياسي المغربي الكبير الأستاذ عبد الكريم غلاب، أمس الأحد بمدينة الجديدة، عن عمر ناهز 98 عاماً»، مشيراً إلى أنه ولد بفاس سنة 1919، وتلقى تعليمه الأول في المدارس الحرة، ثم في كلية القرويين ابتداء من سنة 1932، قبل أن يسافر، بعد ذلك، إلى القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1937، حيث التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة (فؤاد الأول)، سنة 1940، وتخرج منها سنة 1944 (قسم اللغة العربية)؛ وأنه بدأ في نشر كتاباته الأولى عام 1936، إذ كتب أول مقال له في مجلة «الرسالة» القاهرية، وواصل التأليف في مختلف الميادين الأدبية والثقافية والنقدية والسياسية والتاريخية، هو الذي اشتهر في الصحافة بعموده الشهير «مع الشعب» بجريدة «العلم».
وتوقف بيان الاتحاد عند المسؤوليات التي تقلدها الراحل على رأس هذه المنظمة العتيدة، باعتباره ثاني رئيس لاتحاد كتاب المغرب (1968 _ 1976)، فقال: «أتت حقبة السبعينات لتحمل إلى الواجهة اسماً بارزاً في الحركة الثقافية الوطنية، هو الأستاذ عبد الكريم غلاب، فتحمل، باعتباره رئيساً جديداً للاتحاد، ترجمة توصيات المؤتمر الثاني الذي شهدت وقائعه قاعة مدارس محمد الخامس بالرباط. وتقع في صميم هذه النقلة النوعية مسألة الاستقلال عن السلطة الحكومية، ومن جانب آخر، اتسمت الفترة التي قاد فيها الراحل الاتحاد (ثلاثة مؤتمرات) بالتوجه نحو تفعيل دور المنظمة كأداة ثقافية تساير التطلعات الوطنية في التغيير والتحديث. خلف كاتبنا الراحل أزيد من 75 كتابا في الرواية والقصة والأدب والسياسة والفقه الدستوري وتاريخ المغرب. وفاز بجائزة المغرب للكتاب في الآداب ثلاث مرات عن رواياته، «دفنا الماضي» سنة 1968، و«المعلم علي» سنة 1974، و«شروخ في المرايا» سنة 1994. وفضلا عن ذلك، انتخب الفقيد أمينا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية عند تأسيسها سنة 1961، وجدد انتخابه في كل المؤتمرات إلى سنة 1983».
وختم البيان بالإشارة إلى حرص الأديب الفقيد على مواكبة مسار اتحاد كتاب المغرب وتطوره وعمله، ولم يبخل قط عن هيئاته المسيرة بالنصيحة والمشورة، فكرمه الاتحاد في مؤتمره الثامن عشر بما يليق برائد مؤسس، بمثل ما حرص الفقيد على حضور بعض أنشطة الاتحاد، حتى وهو يعاني من ظروف صحية صعبة، بما يكنه - رحمه الله - لهذه المنظمة التي ساهم في تأسيسها من تقدير واهتمام ورعاية، كان آخرها حضوره المشرف بمقر الاتحاد حفل تبرع الأديبة خناتة بنونة بجائزة القدس، التي منحت لها من الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بمسقط عام 2015، باقتراح من اتحاد كتاب المغرب، لوكالة مال بيت القدس بالرباط».
ويبقى تكريم الراحل، قبل ست سنوات، ضمن فعاليات الدورة الـ33 لموسم أصيلة الثقافي الدولي، من بين أبرز المواعيد التي احتفت بتجربة مبدع «دفنا الماضي» و«المعلم علي» وكاتب «مع الشعب». واعتبر الراحل تكريمه، وقتها، بأنه «ليس تكريم أشخاص عابرين، تكريمهم قد لا يزيد ولا ينقص، ولكنه تكريم للثقافة والفكر والأدب»؛ قبل أن يضيف: «أذكر دائماً أنني لم أكن وليد نفسي، فأنا ما أعطيت لنفسي مكانتي أو عملي ولكني كنت وليد تربية وتثقيف وتعليم، فمنذ صغري كان الأساتذة مربين قبل أن يكونوا معلمين، وكانوا مثقفين قبل أن يكونوا أساتذة علم، وكان الأستاذ منهم يراعي الأطفال الذين يتعلمون عنده كما يراعي أبناءه ويعلمهم كيف يسيرون في الحياة، يعلمهم الرجولة ويعلمهم كذلك الاستمرار في العمل، ويعلمهم التواضع، ويعلمهم الانطلاق في مسيرة لا نهاية لها إلا بالموت، وهذا سر ما تمتع به كثير من العلماء والمثقفين في المغرب الذين كان من حظهم أن يتعلموا وأن يتثقفوا على يد معلمين وأساتذة وطنيين قبل أن يكونوا رجال علم، ولذلك أعتقد أنه منذ الصغر انفتح فكري على كل هذه العوالم لأنني سمعت عنها الكثير، ودهشت لأني سمعت لأول مرة، واكتشفت ما تحدث به الإخوة، واكتشفت كثيراً مما تحدثوا به، وحاولت أن أرجعه إلى مصدره الأول فوجدت أن المعلمين الأوائل كانوا مصدر كل معرفة وكل أدب. وفي نظري أنا، على الأقل، لم تعد للأدب القيمة الكبرى، أو على الأقل، ليس له القيمة الكبرى في بلادنا مثل ما هي لبلاد مستغنية عن كل شيء، ويبقى الأدب ترفاً يحتفل به الأدباء والمثقفون والكتاب المحترفون، لا، إن الأدب والكتابة في الأدب وفي الثقافة مسؤولية ورسالة، فإذا لم تكن تستطيع أن تقول شيئا لبلادك، أن تحمل رسالة لبلادك فلا داعي لأن تكون كاتباً ولا شاعراً ولا مؤلفاً ولا روائياً، عليك أن تهتم بشيء آخر، أما الأديب في بلاد مثل بلادنا فيجب أن يكون واعيا بالمسؤولية وعاملا لمصلحة الوطن وداعيا ويعيش دائما بالشعب ومع الشعب، لا أن يعيش في برج عاجي يفرض الآراء وينشر الأفكار الوهمية أو الأفكار الهيولية على الناس، لا، الأدب في بلادنا أدب رسالة، والأدباء حاملو رسالة وثقافة وعمل». وختم بالقول: «أرجو أن أكون قد وفقت في بعض ما كتبت، وكتبت الكثير، ربما فيه الغث وفيه الثمين، ولكن مع ذلك ما قصدت إلا الخير والعمل من أجل بلادي. فقد ربطت طيلة مساري بين المثقف والوطني، بين الحبس والبرلمان، ربطت بين الكاتب والمناضل من أجل البلاد والوطن، هكذا تعلمت، وهكذا سرت في حياتي، إذا قرأت آخر ما كتبت أو أول ما كتبت ستجد أن هناك خيطاً يصل بين أول ما كتبت وآخر ما كتبت، وهذا الخيط هو هذه الروح الوطنية الصغيرة التي تنفث روحها في القلم وفي الكلمة في القطعة في المقالة وهكذا، في القصة وفي الرواية في البحث وفي الكتاب».
من جهته، وصف محمد بن عيسى، أمين عام منتدى أصيلة الثقافي، عبد الكريم غلاب بالمثقف الشامل، الذي يصعب حصره في خانة دون أخرى، معتبراً أنه «أثرى» المشهد الثقافي المغربي على مدى أكثر من نصف قرن، ف«أمتع وأفاد أجيالا ووجهها نحو قيم الحرية ومكارم الأخلاق»، مشيراً إلى «ما أسداه لوطنه وللفكر من عطاءات غزيرة ومميزة، ستظل شاهدة على غنى وعمق شخصيته الفذة». ثم أضاف: «السيد عبد الكريم ليس منتجا عاديا لتلك الأجناس الأدبية، ولكنه مؤصلها ومطورها ومجددها، أدخلها إلى صفحات السجل الثقافي المغربي. واستحق على كل ذلك بجدارة صفة (مؤسس الرواية المغربية الحديثة). فعمله السردي الرائد (دفنا الماضي) يعد بإجماع من درسوه، أول رواية مغربية حديثة، مكتملة الشروط الفنية. وهي المعتبرة أيضاً بمثابة وثيقة وصفت بمهارة فنية عالية، أطوار الصراع والانتقال في مجتمع، هو المغرب، يحاول أن يتخلص من أغلال الماضي وقيوده التي استحقت الدفن، لينخرط في الزمن الحاضر بمشكلاته وتعقيداته وليعانق المستقبل بآماله وتطلعاته. إلى جانب هذه القامة السامقة في دنيا الأدب، تُبهرنا في سيدي عبد الكريم غلاب قدرته الاستثنائية على الجمع والتوفيق بين متاعب العمل السياسي ومحنه، باعتباره أحد أبرز قادة حزب الاستقلال، وبين الانشغال بهموم الفكر وكأنه منقطع لها، وكذلك التأليف في عدد من الحقول المعرفية، توزعت بين النقد الأدبي والتاريخ والسياسة والاجتماع، وغيرها من القضايا التي أثارت الجدل في فترة من تاريخنا الحديث مثل المسألة اللغوية والدستورية والإصلاح القروي والسياسي ودور النخب في الحراك العربي، حيث كان المدافع بقوة الحجة والإقناع عن الرأي الصائب. ونحن إذا ما ألقينا نظرة أولى على جرد مؤلفاته المطبوعة والمنشورة، فلا بد أن يتملكنا شعور بالإعجاب بتلك الموسوعية وبالقدرات الفائقة، التي تنم عن إخلاص يندر أن يوجد مثيل له بين عموم الكتاب».



«ألواح أورفيوس»... مختارات من شعر نوري الجراح

«ألواح أورفيوس»... مختارات من شعر نوري الجراح
TT

«ألواح أورفيوس»... مختارات من شعر نوري الجراح

«ألواح أورفيوس»... مختارات من شعر نوري الجراح

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت مختارات شعرية للشاعر السوري نوري الجراح تحت عنوان «ألواح أورفيوس». اختارت القصائد وقدمت لها الدكتورة ناهد راحيل. وهي تغطي مراحل عدة في تطور تجربة الجراح الشعرية، تقع المختارات في 305 صفحات، ومما جاء في المقدمة:

«يقدم الجراح عبر مسيرته سردية شعرية مضادة تمثل الذات في صورتها الحقيقية، يواجه بها الخطاب الرسمي الذي عادة ما يمتلك طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد أنواع الخطابات الأخرى الممكنة، لذلك يعمد الجراح إلى استعادة الدور الحضاري للشرق في الحضارة الإنسانية وتشكيل الهويات المفقودة وإعادة بنائها بعيداً عن سيرورات سوء التعرف التاريخية...».

ويمكن تعريف النصوص الشعرية التخييلية بالذات بأنها تلك النصوص التي يمكن أن يكون للقارئ فيها دوافع ليعتقد، انطلاقاً من التشابهات التي اكتشفها، أن هناك تطابقاً بين الشاعر والشخصية الرئيسية، في حين أن الشاعر اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقل اختار ألا يؤكده عبر استخدامه عدداً من الحيل الفنية التي تعينه على ذلك.

وعند التعامل مع الخطاب الشعري لنوري الجراح لا يمكننا تجاهل تلك الظاهرة الواضحة المتعلقة بالتناول الواسع لذاته ولشخصيته الحقيقية بوصفها موضوعاً للقصيدة سواء بتصريح نصي منه أو بإيهام بالتصريح.

فقد تحوّلت شخصية الشاعر الخارج نصية إلى جزء لا يتجزأ من خطابه الشعري، حتى إنه من الممكن القول إن المتلقي قد يجد صعوبة في إدراك شعرية خطابه لو لم يكن على دراية بحياته والمؤثرات التي أثرت عليه وكوّنت شخصيته. وعلى النقيض فإنه لن يعي شخصيته إلا عندما يقف على قصائده وخصوصيتها، وما تحمله من ذاتية تؤهله لاستقبالها وتلقي خطابها؛ حيث يجد القارئ نفسه أمام شاعر أوجد لنصه استراتيجية خاصة تقوم بتهجين الشعر بالسرد، وأقام علاقة متبادلة بين الذاكرة والتخييل على اعتبار أن مادة القصيدة الخام هي الحياة الخاصة التي عاشها الشاعر، التي سيقوم بسردها في النص الشعري.

وانطلاقاً من تلك الذاتية، نجد أن الجراح يشبه أشعاره؛ فهو لا يتعامل مع القصيدة بوصفها وسيلة، بل بوصفه هو نفسه جسد القصيدة، فقد عُرف بخطابه التخييلي الذاتي، فهو شاعر يحوي إنتاجه الأدبي العديد من تجاربه الشخصية.

وقد مال الجراح إلى استخدام الترميز للإلماح بهذه الذاتية عبر استخدام تقنيات عدة؛ أولها استخدام الشخصية المطابقة أو النموذج، ثم اللجوء إلى تقنية التقنع بالشخصيات التراثية.

والنموذج، كما قال فيليب لوجون، هو النسخة المطابقة والواقع الذي يدعي الشاعر أنه يشبهه، فتكون علاقة الذات الشاعرة (داخل النص) بالنموذج (خارج النص) هي بالتأكيد علاقة تطابق بشكل عام، لكنها بالخصوص علاقة مشابهة؛ فكان النموذج هو الممارسة الشعرية التي اعتمد عليها الجراح في استعادة تجاربه الذاتية وإعادة تأويلها وفق منظور جديد يقترب من/ يبتعد عن المرجع الواقعي الخاص بحياته المعلن عنها من قبل.

تطالعنا المجموعة الشعرية «الصبي» (1978-1982) بتوظيف النسخة المطابقة، وهي المجموعة الأولى للجراح؛ حيث انفتاح وعيه المبكر على واقعه وبداية اشتعال التجربة الشِّعرية، فعبر تقنية المونولوج وضمير المتكلم «أنا» الذي يناسب البوح دائماً، تستعيد الذات الشاعرة في القصيدة -التي حملت العنوان نفسه - مرحلة التكوين:

صباحُ الخير أيتها المُعَلِّمة

أنا ولدٌ لا يطيق الدُّروس

وها أنذا أمدُّ يدي

لأتناول نصيبيَ من عصاكِ السَّاحرة.

ثم يعود للسرد بضمير الغياب، مما عمل على التفاعل المستمر بين الواقعي والمتخيل؛ حيث يتنقل الشاعر بين السرد الذاتي من خلال ضمير المتكلم الذي يحيل على ذات الشاعرة مباشرة، والسرد الموضوعي من خلال ضمير الغائب الذي يحيل على النموذج (الصبي) الذي يبدأ مسيرة التمرد:

الصَّبيُّ المولعُ بالشَّمسِ وتسلُّقِ الأشجارِ

والذي يرى نجوماً في الصباحاتِ

سوف يفتحُ عينيه فجاءةً

ويطرحُ أسئلتَه على النَّهر.


الحب كمحرض إبداعي ومصدر للإلهام

تورغينيف
تورغينيف
TT

الحب كمحرض إبداعي ومصدر للإلهام

تورغينيف
تورغينيف

ليس بالأمر المستغرب أن يكون الحب ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري. وسواء كان إيروس طاقةً منبثقةً من الداخل الإنساني، كما ذهب البعض كهوميروس وفرويد، أو كان وحياً يرمي بسهامه الجارحة أناساً بعينهم، كما ذهب آخرون، فإن هذا الخليط الغريب من العسل والسم، كان ولا يزال قادراً على حقن متعاطيه بقدر غير قليل من أمصال الكتابة والتخييل والخلق الفني. وهو أمر تعود أسبابه إلى السلطة المطلقة للمعشوق، الذي لا يترك لعاشقه المتوله سوى اللجوء إلى الإفصاح عما يعتمل في أحشائه من المشاعر الجياشة، وأن يحول الآخر الذي تعذر امتلاكه إلى مُنادى بعيد في برية الفقدان.

وإذا كان فرويد قد ربط بشكل وثيق بين الحب والدافع الجنسي، فإنه أكد في الوقت ذاته على أن جزءاً غير قليل من نيران الرغبات العشقية يمكن «تصريفه» بواسطة الأنا الأعلى عبر الأدب والفن وسائر ضروب الإبداع. وقد استعان فرويد لإثبات بعض مقولاته في التحليل النفسي واللاوعي بروايات دوستويفسكي. وفي إثباته لعقدة أوديب لجأ إلى هوميروس، كما لجأ في أماكن أخرى إلى شكسبير، وإلى شخصية هاملت على وجه الخصوص.

ومع أن علاقة الحب الطبيعية هي علاقة تبادلية تتم على المستويين العاطفي والجسدي بين شخصين اثنين، فإن العاشق وفق رولان بارت هو وحده الذي يتكلم ويناجي نفسه، أما المعشوق فلا ينبس ببنت شفة. ولأنه في حالات الاستعصاء والتعذر، كما في «آلام فرتر» لغوته، مرصود للترحال والهرب والهجرة الأبدية، فإن العاشق الثابت والذاهل عن كل ما عداه، لا يجد وسيلة ناجعة لجمع شتات نفسه سوى اللغة، باعتبارها ربيبة الانتظار العقيم، وثمرة الغياب الأشهى.

رولان بارت

وإذ يرى بارت أن الحب يجعل كلاً من المرأة والرجل جلداً للآخر، في تماهٍ لافت مع الآية القرآنية الكريمة «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، يذهب بالمقابل إلى أن اللغة في حالات الشغف القصوى، تتحول هي نفسها إلى جلد بديل. «إنني أحكّ لغتي بالآخر كما لو أن الكلمات هي الأصابع البديلة للملامسة»، يقول صاحب «شذرات من خطاب في العشق»، ليضيف قائلاً بأن العاشق المسكون بعفريت اللغة، يؤثر أن يتحول إلى كائن مازوشي مطرود من فردوس العلاقة العشقية، لتصبح الكتابة عن الحب المنتهي نوعاً من قيام المريض بتنظيم الحداد على معالجه النفسي. وفي حالات التأزم القصوى تصبح اللغة «شبيهة بصرخة عاتية خارجة من اللحد الذي لم يُحْكم إغلاقه».

ولم ينكر الشعراء والفنانون العشاق ما للنساء اللواتي أوقعونهم في شرك سحرهن من تأثير بالغ على إنجازهم الأدبي والفني، الذي كان من دون الحب سيفقد الكثير من طاقته وشحناته العصبية والتعبيرية. ففي حين يعترف شوبان بأن وجود جورج صاند إلى جانبه هو الذي جعل ألحانه تندفع بقوة من أعماق روحه، يؤكد سورين كيركغارد أن الحب دون سواه هو ما منح المعنى لحياته ولإبداعه، ثم يضيف ما حرفيته «إن نشاطي ككاتب يعود إلى المرأة التي أحببتها، بما جعل حياتي برمتها أشبه بالجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. إنني لا أملك سوى رغبتي في أن أسحرها، ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب، لأنه مركز الوجود، وما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغماً لا يُمحى».

فرويد

ومع ذلك فإن كيركغارد، الذي شكلت خطيبته ريجين أولسن المصدر الأهم لكتاباته، لم يتورع رغم تعلقه الشديد بها، عن الانفصال عنها بشكل مفاجئ ومؤلم، لتقترن بعد يأسها منه بخصمه اللدود فريدريك شليغل. ولم يكن السبب في ذلك تبدلاً في عواطف الفيلسوف الوجودي إزاء أولسن، بل كان رفضه الاقتران بها ناجماً عن خوفه من الرزوح تحت وطأة المؤسسة الزوجية، ورتابتها المفضية إلى نضوب مناجم إلهامه، شأنه في ذلك شأن المئات من الفلاسفة والكتّاب الآخرين.

على أن في الجانب الآخر من المعادلة، من جعل الحياة هدفه الأول، وقدّم الحب على الكتابة، كما فعل الكاتب الروسي إيفان تورغينيف. فقد أسرّ صاحبُ «الآباء والبنون»، الذي أحب مغنية الأوبرا المتزوجة بولين فياردو، ولم يتردد في ملازمته لها طيلة حياته دون أن يمسها، لصديقه فلوبير، بأن الحب لا الكتابة هو أولويته الحاسمة وعلة وجوده الأسمى. ثم تابع اعترافاته قائلاً «لو خُيّرتُ بين أن أصبح أعظم عبقري في العالم، أو أن أصبح بواباً أمام بيت بولين، لفضلتُ أن أكون بواباً على أن أكون عبقرياً».

وإذا كان تورغينيف يعلن انتصاره للواقع على اللغة وللحياة على الفن، فإن موقفه ذاك قد يكون ناجماً عن رغبته المقموعة في امتلاك المرأة التي شغف بها، بعد أن رفضت بولين إخراج علاقتهما العاطفية من سياقها الروحي، أو التضحية بزواجها من أجله. ومن حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موقف تورغينيف سيظل هو نفسه لو أنه حقق رغبته بالزواج من بولين. فاللغة الخلاقة لا تنبت في الأعم الأغلب إلا في تربة الحرمان، وكثيراً ما تحضر بوصفها نائب الفاعل، أو البديل الرمزي عن الحياة المتحققة.

«إن الشفاه تغني حين تعجز عن التقبيل»، يقول أحد المفكرين. ولم يكن جاك لاكان بعيداً عن هذا المبدأ حين اعتبر أن فطام الفم الطفولي عن الثدي الذي يرضعه هو الشرط الأهم لتحريره وتمكينه من النطق. وإذ يصبح العشق نوعاً من النكوص الارتدادي باتجاه الطفولة، يشترك الطفل والشاعر العاشق في تحويل الكلام إلى طريقة مثلى لطلب الإشباع. وهو ما يفسر «لهج» الأول المتكرر باسم الأم غير القادرة، أو غير الراغبة بسدّ جوعه، والثاني باسم الحبيبة الغائبة والممعنة في الصدود والتمنع.

إن التوتر والمجازفة بأشكالهما الأكثر احتداماً هما ما يصهر الحب والإبداع في بوتقة واحدة ولأنهما يتغذيان من النار ذاتها

إن التوتر والمجازفة بأشكالهما الأكثر احتداماً هما ما يصهر الحب والإبداع في بوتقة واحدة. ولأنهما يتغذيان من النار ذاتها التي تجعل من الغياب حطبها ومادة اشتعالها الأكثر نجاعةً، فإن كلاً من العاشق والمبدع لا يستمرئ الوصول المطمئن إلى غايته، التي تشبه النقطة الختامية للنص، بل يتحول إلى صياد دائم لقلق النفس وعذابها المازوشي. وإذ يرى ابن حزم الأندلسي أن المحب يتعمد الهجر في بعض الأحيان ليرى صبر محبوبه عليه، أو يلجأ للتدلل خوفاً من الملل، مستدرجاً بطريقة أو بأخرى المعاناة التي تؤجج في داخله رغبة الكتابة، يؤكد مارتن هايدغر الفكرة نفسها، حيث عدَّ مغامراته العاطفية خارج الزواج بمثابة «وثبات هامة نحو الحقائق المخفية التي ينبغي اكتشافها». ولأنه لا رغبة توازي رغبة اكتشاف الآخر، فإن تلك المغامرات كانت الوسيلة الحتمية لإعادة تنشيط صيرورة الإبداع.

وفي بعض الأحيان يبتكر الشعراء والفنانون وسائل مختلفة لرفد نصوصهم وأعمالهم بما يلزمها من مساحات التوتر وجُذى التعبير، كأن يقعوا في حب نساء لم يلتقوا بهن أبداً، أو يرتجلونهن من بنات الأفكار وفضاءات التخيل. وقد يعمدون في أحيان أخرى إلى استبعادهن من الواقع اليومي القابل للفساد والتحلل، لكي يستردوهن في ألق الكتابة وبهاء المجاز. ولم يكن صادق جلال العظم مجافياً للحقيقة حين عدَّ أن شعراء بني عذرة قد آثروا بشكل متعمد النأي بأنفسهم عن الارتباط الزوجي بفتياتهم المعشوقات، لمنع نيران الشغف المولدة للشعر من الضمور والانطفاء. والدليل على ذلك أنهم أصروا على التشبيب الصريح بهن، رغم معرفتهم بتقاليد القبيلة التي تحظر على الشاعر الزواج من الفتاة التي «يشهّر» بها أمام الملأ. وهم حين فعلوا ذلك، كانوا في حقيقة الأمر ينتصرون للغة على الحياة، ويضحون بلحم الأنوثة الزائل لكي يربحوا النصوص التي تضمن لهم سبيلهم إلى الخلود. كما كانوا من جهة أخرى يتداوون بالشعر من سقام الحب ووطأة الحرمان. فالكتابة عن شيء ما تعني إبطاله في الواقع، أو تعني على الأقل التخفيف من مفاعيله وتبعاته الثقيلة، بما يعكسه قول المجنون:

وما أُشْرِفُ الإيقاعَ إلا صبابةً

ولا أُنشد الأشعار إلا تداويا

ولعل ما فعله أورفيوس في الأسطورة اليونانية، لم يكن ليبتعد كثيراً عما فعله العشاق الذين ضحوا بالحب على مذبح الفن. وإلا فكيف نفسر قراره بمخالفة وصية الآلهة بألا يلتفت إلى الخلف، بعد أن استجابت الأخيرة لمناشداته لها بإعادتها، وقد ماتت من لدغة أفعى، إلى الحياة؟ ألم تكن هذه الالتفاتة تعبيراً عن رغبته المضمرة في «إماتة» أوريديس الحقيقية لإحياء أوريديس المجاز، ولشحن موسيقاه بكل ما يلزمها من أسباب الحنين والعشق المستحيل وأطياف الرغبات المفقودة؟


كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
TT

كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية

كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق

من المواقع الأثرية المتعددة في جزيرة فيلكا، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة حُفظت في «متحف الكويت الوطني»، منها مجسّم صغير يمثّل كبشاً جاثياً، يماثل في تكوينه مجسّمين محفوظين في «متحف البحرين الوطني»، فقدَ كلّ منهما رأسه، مصدرهما قرية دراز الواقعة في الجزء الشمالي الغربي من الساحل البحريني. تعود هذه التماثيل الثلاثة إلى مرحلة سحيقة من التاريخ، كانت فيها فيلكا والبحرين حاضرتين من إقليم واسع عُرف باسم «دلمون»، شمل مناطق واسعة من الساحل الخليجي، وشكّل حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين ووادي السند.

تضمّ جزيرة فيلكا مواقع أثرية عدة؛ أشهرها موقع يُعرف بـ«تل سعد»، وآخر يُعرف بـ«تل سعيد». يقع الأول في القسم الجنوبي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر، ويضمّ ما تُعرف بـ«المدينة الدلمونية»، ويقع الثاني على بعد 300 متر إلى الشرق منه، ويعرف بـ«القلعة اليونانية». كشفت عن أسس هذه القلعة بعثة دنماركية خلال سلسلة حملات تنقيب نفذتها في نهاية الخمسينات، وتبيّن أن الموقع يحوي معبداً واصلت بعثة فرنسية استكشافه بشكل معمّق في 1983. في العام التالي، نشر العالمان الفرنسيان آني كوبي وجان فرنسوا سال تقريراً شاملاً، وثّقا فيه بأسلوب علمي دقيق مجمل القطع التي عُثر عليها في هذا المعبد الهلنستي خلال أعمال المسح والتنقيب. حوت هذه المجموعة من اللقى بضعة مجسّمات من الحجم الصغير؛ منها مجسّم صغير من الحجر الصابوني الرمادي اللون، يمثّل كبشاً جاثياً يبلغ طوله 6.4 سنتيمتر، وعرضه 2.4 سنتيمتر.

يحضر هذا الكبش في كتلة واحدة تخلو من أي فراغ، يبدو فيها جاثياً أرضاً على قوائمه المطوية. يغلب على ملامح هذه الحيوان الطابع التحويري المختزل. تظهر العين على شكل دائرة محفورة، ويتشكّل الأنف من كتلة مقوّسة ناتئة. تبدو القوائم شديدة الالتصاق بالجزء الأعلى من البدن، كما يبدو القرنان الناتئان ملتفّين كهلالين حول الوجه، ويظهر الذيل ملتفاً حول مؤخرة الجسد لجهة اليسار، وتعلو مساحة البدن شبكة من النقوش الطفيفة تجسّد على ما يبدو فروة الجلد. عُثر على هذا الكبش في المعبد الهلنستي، غير أنه بدا مجرّداً من أي طابع إغريقي، ممّا يوحي بأنه يعود إلى عهد سابق، أي إلى العهد الدلموني، وقد أعيد استخدامه لاحقاً في هذا الموقع، لكن وظيفته تبقى ملتبسة، والأرجح أنه كان مثبّتاً على أثر ضاع يصعب تحديد هويّته، كما توحي الثقوب المحفورة على السطح الأسفل للمجسّم.

يشبه هذا الكبش في تكوينه مجسّمين معروضين في «متحف البحرين الوطني»، عثرت عليهما البعثة الدنماركية في معبد يُعرف باسم «معبد بئر أم الصقور»، يقع في الجهة الشرقية من قرية دراز، في الجزء الشمالي الغربي من البحرين. تحوي هذه القرية آثاراً دلمونية تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، وتجاورها شرقاً قرية باربار التي تحوي ثلاثة معابد شُيّد الواحد منها فوق الآخر على مر السنين، وتمثّل أهمّ شواهد حضارة دلمون في البحرين. صُنع التمثالان من الحجر الجيري، ويبلغ طول كل منهما نحو 21 سنتيمتراً، وعرضه 31 سنتيمتراً، وقد عُثر عليهما مقطوعي الرأس للأسف، ويوحي تكوينهما بأّنهما يمثلان كذلك كبشين جاثيين في وضعية تماثل وضعية كبش فيلكا، كما يوحي موقعهما الأصلي في «معبد بئر أم الصقور» بأنّهما شكّلا جزءاً من عناصر هذا المعبد.

في دراسة حملت عنوان: «فنون النحت من حضارات الساحل الغربي للخليج العربي في العصور البرونزية إلى نهاية العصر الحديدي»، ذكر الباحث علاء الدين عبد المحسن شاهين هذين التمثالين، وربط بين بئر المياه العذبة وبعض العناصر المعمارية والدينية الخاصة بالمعبد، ورأى أن هذه العناصر تتصل «بالطقوس الدينية المرتبطة بعمليات التطهّر والاغتسال، حيث شُيّدت على فوهة البئر غرفة من الحجارة الجيدة، يجري الوصول إليها عن طريق دَرَج هابط أقيم على جوانبه بعض رموز العبادة المتمثّلة في الكبشين الجاثيين على قاعدتها عند راس الدرج، واللذين ربما كانا يشكلان جزءاً من زخرفة العمود، أو زخرفة الهيكل المشيّد في فترة مجد الحضارة الدلمونية».

نُسب كبشا البحرين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، كما تشهد اللقى الأثرية التي اكتشفت في الموقع وفي محيطه. ونُسب كبش فيلكا إلى الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. قورنت هذه المجسمات بقطع متعددة من بلاد ما بين النهرين، تعود إلى نواح مختلفة من هذه البلاد، كما قورنت بقطع من بلاد وادي السند، تعود إلى موقعَي «موهينجو دارو» و«هارابا» في جنوب باكستان. تأتي أغلب هذه القطع على شكل مجسمات من الحجم الصغير صُنعت من مواد مختلفة، ونقع على نماذج عديدة منها في مجمل المتاحف العالمية، حيث توصف غالباً بـ«التمائم».

تعود أقدم هذه النماذج على ما يبدو إلى جنوب وسط بلاد الرافدين، وهي من نتاج «عصر جمدة نصر»، أي إلى حقبة أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. يُمثّل هذا العصر ثقافة من حقبة ما قبل التاريخ، تسمّت باسم «تل جمدة نصر» في محافظة بابل، جنوب بلاد الرافدين، نسبة الى المخلفات الأثرية التي خرجت منه في العقود الأولى من القرن العشرين. وشملت هذه التسمية الجامعة مواقع أخرى في أنحاء جنوب وسط العراق؛ منها: أور، وأوروك، ونفر، وخفاجة، وأبو صلابيخ، وشوروباك، وتل العقير.

في هذا الميدان، يبرز خاتم أسطواني محفوظ في «متحف الشرق الأوسط» في برلين، مصدره مدينة «أوروك» التي تُعرف عربياً باسم «الوركاء». صُنع هذا الخاتم من الرخام والنحاس، ويعلوه مقبض نُحت على شكل كبش جاثٍ، يشبه في تكوينه إلى حد كبير كبش فيلكا. يستقرّ هذا الكبش جاثياً بثبات فوق كتلة أسطوانية تحمل نقشاً تصويرياً يمثل راعياً يُطعم قطيعاً من الغنم، وتعكس هذه الصورة الجامعة أهمية الدور الذي لعبته الماشية لدى الإنسان في «عصر جمدة نصر» الذي طبع بداية ظهور الحضارة السومرية.


الدكتوراه ليست جواز مرور لعالم الأكاديميا

الدكتوراه ليست جواز مرور لعالم الأكاديميا
TT

الدكتوراه ليست جواز مرور لعالم الأكاديميا

الدكتوراه ليست جواز مرور لعالم الأكاديميا

أكثر البحوث تطوراً على مستوى التقنيات الحديثة إنما تحصل في مختبرات الشركات الخاصة (مختبرات «IBM» و«مايكروسوفت» مثالاً) لذا فقدت الجامعات كثيراً

من بريقها السابق

ظلّت شهادة الدكتوراه مطمح كثيرين بوصفها أعلى شهادة أكاديمية تمنحها الجامعات منذ بواكيرها التأسيسية الأولى. كان دخول الجامعة حلماً يتطلّبُ الكدّ والاجتهاد؛ فكيف لو حصل المرء على أعلى شهادة منها؟ ما يحصلُ في الغالب، خصوصاً في أوساطنا العربية، أنّ شهادة الدكتوراه هي حلمٌ مفعمٌ بالأمل والإحساس بالتفوق والإنجاز. غالباً ما يحلم المرء وهو يخطو خطواته الأكاديمية المبكّرة بأن يرى هذه الحروف الثلاثة السحرية PH.D تأتي مترافقة مع اسمه كتعريف قانوني به يبيحُ له كلّ الميزات الاعتبارية والمادية التي تتيحها هذه الشهادة. أهمّ هذه الميزات اعتبار هذه الشهادة جواز مرور مؤكّداً ومضموناً إلى عالم الأكاديميا (Academia) بكلّ مواصفاته النخبوية. لم تكن هذه الحال حصرياً مع منطقتنا العربية. حتى البلدان الغربية كانت هذه هي الحال الشائعة فيها، ويمكن تحسّس هذه الحقيقة مع ملاحظة حرص حملة شهادات الدكتوراه على كتابة أسمائهم تليها هذه الحروف الثلاثة: PH.D. غاب هذا التقليد اليوم أو كاد يغيب تماماً.

الثورات الرقمية والمعلوماتية

يبدو من مراجعة تاريخ الأكاديميا والسياسات الأكاديمية والجامعية وطبيعة الثورات التقنية أنّ تغييراً جوهرياً طال هذه السردية التي تجعل شهادة الدكتوراه طريقاً أحادية الاتجاه نحو وظيفة في عالم الأكاديميا، وقد تسارع هذا التغيير مع مقدم الثورات الرقمية والمعلوماتية. هناك أسباب واقعية وأخرى عملية كسرت هذا التوجّه، منها:

أوّلاً: من الطبيعي أن تتزايد أعداد الحاصلين على الدكتوراه في كلّ الميادين البحثية والمعرفية في حقول العلوم والهندسة والإنسانيات والحقول الاجتماعية، وهذه الزيادة لا تتوافق مع الزيادة المتوقّعة في أعداد الجامعات المستحدثة؛ لذا فإنّ فجوة مؤكّدة بين أعداد حَمَلة الـPH.D والمواقع الأكاديمية المحدودة لا بد أن تكون حاصلة.

ثانياً: هناك تغيّر جوهري في طبيعة الجامعة والتعليم الجامعي. لم تعد الجامعة تحتكرُ العملية البحثية، بل الملاحَظُ أنّ أكثر البحوث تطوراً على مستوى التقنيات الحديثة إنما تحصل في مختبرات الشركات الخاصة (مختبرات «IBM» و«مايكروسوفت» مثالاً)؛ لذا فقدت الجامعات كثيراً من بريقها السابق.

ثالثاً: لو راجعنا السيرة الذاتية لكثير من أساطين التقنيات الحديثة نجد أنهم لم يحصلوا على شهادة الدكتوراه، بل إنهم لم يكملوا حتى تعليمهم الجامعي ما قبل الدكتوراه (البكالوريوس). مارك زوكربيرغ مثال ساطع لهؤلاء. ما هو أكثر إثارة أنّ شركاتهم باتت توظّف العديد ممن حصلوا على الدكتوراه.

رابعاً: الغربيون معروفون بتوجّهاتهم العملية (البراغماتية). القسم الجامعي الذي تقلُّ أعداد المسجّلين فيه سيغلقونه لتوفير نفقاته غير المجدية. لا يوجد شيء عنوانه «التعليم مثل الماء والهواء للجميع». التعليم الجامعي في معظم البلدان الغربية ليس واجباً على الدولة تقديمهُ مجاناً لكلّ الناس بقدر ما هو نشاط اقتصادي يخضع للعوامل الحاكمة لأي منشط اقتصادي رأسمالي (عوامل العرض والطلب والربحية).

خامساً: شهادة الدكتوراه جزء من سياق فعالية بحثية مكلفة وليست ترفاً ذهنياً مجانياً؛ لذا فهي تتطلبُ تخصيصات مالية كبيرة. لن تخصّص جهة حكومية أو خاصة مالاً لا يخدم سياساتها العامة في حقول الدفاع أو التقنية أو العلوم المتقدّمة. بعبارة أخرى: يجب على دارس الدكتوراه أن يضع في اعتباره مخرجات شهادته وإمكانية توظيفها، وإلّا فإنها ستكون فعالية غير منتجة له ولبلده.

سادساً: التقنيات الرقمية أحدثت انقلاباً ثورياً على صعيد الأفكار والقدرات البشرية. صار النظر اليوم إلى الكفاءة المختبرة عملياً بدلاً من عناوين جامعية أو مهنية لا تقترن بخبرة مؤكّدة يمكن توظيفها وتحصيل الأرباح منها.

ما الذي ستفعلونه بعدها؟

كُتِب الكثير في أدبيات التعليم الجامعي والسياسات الأكاديمية بشأن المناخ المتبدّل لطبيعة الدراسة الأكاديمية وشهادة الدكتوراه. من الكتب المثيرة التي نُشِرت في هذا الميدان الحيوي كتابٌ حرّره البروفسور كريستوفر آر. مادان Christopher R. Madan ونشره في جزأين. البروفسور مادان يعمل أستاذاً مساعداً لعلم النفس بجامعة نوتنغهام البريطانية، ويشمل طيفُ اهتماماته البحثية موضوعات واسعة ومتداخلة، منها: الإدراك واللغة، العلوم العصبية الاحتسابية، التصوير العصبي، النمذجة العصبية... وقد نشر كتباً مهمّة في هذه الميادين.

كتاب مادان جاء بعنوان عريض: «الأكاديميا والعالم خارج أروقتها» Academia and the World Beyond. الإهداء الذي كتبه المحرّر في بداية الكتاب يكشف عن موضوعته الكبرى: (إلى طلبة الـPh.D غير العارفين كيفية الإجابة عن التساؤل التالي: «ما الذي سأفعله بعد هذا؟»، وكذلك إلى المشرفين الذين يجاهدون لدعم طلبة الدكتوراه الساعين إلى وظائف خارج النطاق الأكاديمي).

الكتاب بجزأَيه مصمَّم على أساس نمط الاستبيانات الشائعة في البحوث السيكولوجية؛ لكنّه تجاوز الاستبيانات التقليدية عندما عمد المحرّر إلى أن يجعله حواراً مفتوحاً يحكي فيه حاصل الدكتوراه عن تجربته بعد حصوله على الشهادة وكيف عانى ضياع حلمه (المفترَض) في الحصول على منصب أكاديمي، ثمّ تعلّم أنّ الحياة أكبر من أي منصب أكاديمي، وأنّ فيها إمكاناتٍ يجب أن نجتهد لبلوغها بعيداً عن أي تصوّر مسبّق يشلُّ قدرة عقولنا. أهمّ ما تركّز عليه الحوارات الخمسون في جزأَي الكتاب أنّ الدكتوراه رحلة لذيذة رغم مشقاتها، وهي ليست ميزة تضمن لصاحبها وظيفة أكاديمية مرفّهة بل يجب بعد الحصول عليها أن نطوّر إمكانياتنا لنظفر بعمل جديد. الحياة تعلُّم مستمر، وليست حفلة شاي في نهاية المطاف.

يكتب المحرّر في مفتتح مقدّمته للكتاب:

«سؤال شائع ذاك الذي يواجهه طلبة الدكتوراه من قِبَلِ أصدقائهم وعائلاتهم: (ما الذي ستفعلونه بعدها؟) لكنّ العديد من هؤلاء الطلبة هم في واقع الحال مسكونون بمتطلبات الشهادة ذاتها، وليست لهم الفرصة للتفكّر الكافي بحياة ما بعد الدكتوراه. تتشارك المهن الأكاديمية وغير الأكاديمية بعض المشتركات من حيث إن المهارات التي يتمّ تعلّمها في مرحلة الدكتوراه يمكن أن تكون ذات فائدة خارج نطاق الأكاديميا...».

وجّه المحرّر أسئلة محدّدة لهؤلاء الذين اختارهم ليكتبوا عن تجاربهم، وكلهم من الحاصلين على الدكتوراه في علم النفس (السيكولوجيا) أو العلوم العصبية. قد يكون هذا التخصيص مأخذاً على المحرّر؛ لكنّه يعترف بأنّه اقتصر على طلبة دكتوراه من حقله البحثي، وسيعمل لاحقاً على توسيع نطاق البحث ليشمل حقولاً بحثية أخرى. لكي يكون القارئ على بيّنة من طبيعة الأسئلة سأترجم بعضاً منها إلى العربية:

- عندما كنتَ تكمل شهادة الدكتوراه، هل كنتَ تفكّرُ بخطط محدّدة للمهن التي ستمتهنها بعدها؟

- كيف تغيّرت خططك المهنية بعد حصولك على الشهادة؟

- هل تستطيع إخبارنا بعض الشيء عن حياتك اليومية وأنت في مهنتك الحالية؟

- ما الذي تحبه أكثر من سواه في مهنتك الحالية؟

- ما الذي تمقته في مهنتك الحالية؟

- كيف ترى أنّ حصولك على الـPh.D قد ساعدك على النجاح في مهنتك الحالية؟

- أحد الأسباب التي تجعل حاصلي الدكتوراه يفضّلون الأكاديميا هو شعورهم بأنّها (الأكاديميا) توفّرُ لهم حرية أكثر بكثير من الحرية التي توفرها مهن في قطاعات أخرى غير الأكاديميا. ما مدى الحرية التي ترى أنك تحوزها في مهنتك الحالية لفعل ما ترغب في فعله والاستمتاع به؟

- معتمداً على رحلتك مع شهادة الدكتوراه وما بعدها؛ ما النصيحة التي تودُّ تمريرها لهؤلاء الذين هم على وشك إكمال الدكتوراه؟

النتيجة في النهاية هي خمسون رحلة كتبها أصحابها بكيفية أقرب إلى سرديات رفيعة تنقل لنا - ولحاصلي الدكتوراه بالتخصيص - خبرات ثمينة، أهمّها ضرورة التكيُّف مع المتغيرات العالمية وعدم اتخاذ نسق مسبّق إطاراً جامداً لنا.

الخصيصة المشتركة بين الرحلات التي ضمّها الجزآن هي قناعة أصحابها بأنّ عصر الثورة التقنية الرابعة التي نعيش بداياتها يوفّرُ ميادين مهنية مرغوبة أكثر من معظم الحقول البحثية لشهادات الدكتوراه الشائعة، وبلوغُ هذه الميادين شائع ومتاح ومجاني في الغالب لا يتطلبُ فواتير باهظة كما الجامعات، لذا فإنّ إتقان التعامل مع علوم البيانات أو الذكاء الاصطناعي أو لغة برمجية (مثل «بايثون») أو تصميم المواقع الرقمية قد يكون إحدى الإمكانيات المتاحة لمهن مرموقة خارج نطاق الأكاديميا.


مراد القادري: الاستخفاف بالشعر يفتح الباب للتفاهة والبلاهة

مراد القادري
مراد القادري
TT

مراد القادري: الاستخفاف بالشعر يفتح الباب للتفاهة والبلاهة

مراد القادري
مراد القادري

عن الحاجة إلى الشعر في عالم اليوم، وعن أعطاب الممارسة الشعرية العربية، يتحدث رئيس «بيت الشعر» في المغرب الشاعر مراد القادري لـ«الشرق الأوسط»، في هذا الحوار؛ الذي يصادف احتفالية «اليوم العالمي للشعر»، وهي الاحتفالية التي أطلقتها منظمة «اليونيسكو» قبل ربع قرن من اليوم، بمبادرة من «بيت الشعر» في المغرب. كما يتحدث القادري عن وضعية الشعر العامي في العالم العربي، وكيف استطاع أن يواكب مشروع التحديث الذي انتمى إلى أفقه الشعر العربي المعاصر. هنا نص الحوار:

* احتفلنا قبل أيام بـ«اليوم العالمي للشعر»، الذي يوافق 21 مارس (آذار) من كل عام. وكان هذا التقليد الثقافي قد انطلق في نهاية القرن الماضي، بمبادرة من «بيت الشعر» في المغرب. لكن يبدو أن العالم لم يعد في حاجة إلى الشعر. إلى هذا الحد أمكن الاستغناء عن الشعراء؟

- الحاجة اليوم إلى الشعر والشعراء أضحت ضرورية أكثر من أيّ وقت مضى؛ لمواجهة النسيان الجارف، الذي يَطولُ القيَم الإنسانيّة والجَماليّة، ويحصر اللغة في بُعْدها التواصليّ الاستهلاكيّ، ويجرفها نحو سَطوة الإعلاميّ والتقنيّ والسياسيّ، بعيداً عن الآفاق التي تفتحها للذات لمعرفة نفسها، واستكشاف الآخر، والاقتراب من العالم والكون.

منذ يومين فقط، كاتبنا في «بيت الشعر» في المغرب، الشاعر الإيطالي الكبير جوسيبي كونتي، الذي فاز هذه السنة بـ«جائزة الأركانة العالمية للشعر»، طلبنا منه أن يكتب كلمة خصّيصاً لاحتفالية «اليوم العالمي للشعر - 21 مارس 2024»، وهو التقليد الذي درجنا عليه منذ أنْ أقّرت «اليونيسكو» هذا اليوم سنة 1999 بمبادرة من مؤسستنا «بيت الشعر» في المغرب، فجاءت كلمتُه لتجيبَ عن هذا السؤال، الذي ما فتئ يُطرح على الفاعلين في الحقل الشعري؛ أفراداً ومؤسسات، ليس في المنطقة العربية فقط، بل في العالم بأسره... فمِمّا جاء في كلمة الشاعر الإيطالي ردّاً على سؤالك: «أظنّ أنه لا ينبغي للشّعراء أن يستسلموا ويرضخُوا أو يعتقدوا أنه لا فائدة من رفْع أصواتهم وأناشيدهم في وجه المُعاناة والفظائع... على العكس؛ عليهم الغناء بصوتٍ أعلى، والانتصار للكرامة والجمال، والرحمة والسلام، والتأكيد على أنّ الشّر والعنف يترسّخان في المجتمع كلما جرى تهميش الثقافة الإنسانية والشعر، وكلما تُرك المجال مفتوحاً للاقتصاد وللتقنية وبالتالي للأسلحة للسيطرة المطلقة».

الشّعرُ جوهرُ الإنسان، وهو جوهر الأخوة بين جميع البشر والعالم الطبيعي وكوكب الأرض. الشّعرُ طاقة اللغة، والروح، والحلم، واليوتوبيا... هو كلّ شيءٍ مقدّس وحُر ظل بيننا. الاستخفاف بالشعر وبدوره يفتح الباب للتفاهة والبلاهة اللتين تحولتا إلى سُلطة يَوميّة في ظلّ التراجع المُهول لِمَنظومة القِيَم، والخفوت البيِّن للسؤال الثقافيّ.

> ثمة بيوت أخرى للشعر في كثير من الدول العربية. هل هنالك تنسيق بين هذه المؤسسات الثقافية الشعرية؟

- هنا يمكن الحديث عن أحد أعطاب الممارسة الشعرية في المنطقة العربية، فبقدر ما يعيش شِعرنا العربي وضعاً عادياً وطبيعياً، على مستوى الإنتاج كما هي حال الشعر في العالم، فإنه، من جهة أخرى، يعيش عدداً من الأعطاب التي تحدّ من مقروئيته ورواجه وتلقّيه بالقدر الذي، ربما، كان عليه من قبل.

ولأنّ المجال لا يسمحُ برصْد وتشْخيص هذه الأعطاب كافّة، التي يختلطُ فيها الثقافي بالسّوسيولوجي وأحياناً بالسياسي، فدعْني أقل لك، رداً على سؤالك الدّقيق، إنّ غياب التّنسيق بين المؤسسات الثقافية الشّعرية، وتحديداً بين بيوتات الشّعر العربية، يُعدّ نقطة ضعف شديدة وعلامة سوداء حان الوقتُ لمحْوها، واعتمادِ آليات للتواصل والحوار بين العاملين كافة في الحقل الشعري خِدمة لفنّ العربية الأول؛ إذ يجبُ علينا ألا ننسى أن قرابة الدم، واللغة، والجغرافيا والتاريخ، من شأنها أنْ توفّر لنا المناخ الملائم لتوطين سياسة شعرية عربية تقوم على الخبرات والتجارب وإنجاز الأنطولوجيات الشعرية المُشتركة، والترافع عن شِعرنا العربي وتأمين عبُوره إلى اللغات الأجنبية، والعمل الجماعي من أجل ضمان كرامة الشعراء في المنطقة العربية وحقّهم في الإبداع والتعبير، وقبل ذلك حقّهم في العيش الكريم.

هنا يمكن لي القول إنّنا في «بيت الشّعر» في المغرب مستعدّون للعمل ضمن هذا الأفق، الذي لا نجده غريباً علينا، فقد عملنا ضمنه منذ تأسيس «بيت الشعر» سنة 1996، وهو ما كان من مُخرجاته ونتائجه تخصيصُ أعداد من مجلتنا «البيت» لتقديم الرّاهن الشعري في المنطقة العربية، حيث خصّصت المجلة عدداً عن الشّعر في المملكة العربية السعودية، وعدداً آخر عن راهن الشعر في البحرين.

> أنت شاعر؛ تكتب بالعامية، وقد درست هذا الشعر العامي المغربي في أطروحتك، ومقالات ودراسات أخريات. هل ترى في الانفتاح على الشعر العامي في الدول العربية فرصة لبيان أن الشعر هو شأن عام، وهو شأن شعب بأسره، وليس مجرد إبداع نخبة مثقفة؟

- منذ فترة غير بعيدة لم تعدْ إبداعيةُ الشعر تُقاسُ باللغة التي يستعملها، بل بمدى قُدرته على الإدهاش وحمل قارئه على الحلم. وهي الأهداف التي يتساوى فيها الشعر المكتوب بالعربية المدرسية والمكتوب بالعامية، ذلك أنّ الدّارِجة التي ينكتبُ بها هذا الأخير (شعر العامية) هي سليلةُ اللغة العربية، وهما معاً يشتركان في كثير من الخصائص التركيبية والدلالية والمعجمية.

عموماً، لم يعد أحدٌ، اليوم، يجادلُ في شعرية القصيدة المكتوبة بالعاميّة، خصوصاً بعد أن منحَتنا جواهر من اللؤلؤ المنضود، شرقاً وغرباً، حيث استطاعت، من جهة، أن تخترقَ وجدان الإنسان العربي الذي عثر فيها على صورته ووجدانه، فتغنى بمتونها الغنائية التي عبرت إلى أوتار الملحنين العرب (بيرم التونسي، والرحابنة، وحسن المفتي، وأحمد الطيب لعلج، وعبد الرحمن الأبنودي...)، كما استطاعت، من جهة أخرى، أن تواكب مشرُوع التّحديث الذي انتمى إلى أفقه الشعر العربي المعاصر، بعد أن تخفّفت من بُعدها الشفوي، وصارت كتابية أكثر. كلّ ذلك جعل زاوية نظر النّقاد والباحثين تتغيّر تجاه القصيدة المكتوبة بالعامّية. فلم يعدْ يُنظر إلى هذه القصيدة على أنها نصّ «عُمومي» أو«شعْبي» بما تحملُه هاتان الكلمتان من شُحنةٍ قدْحية وتحقيرية؛ بل بما هي قصيدةٌ مبنيّة، تتغذّى من مصادر شعرية وثقافية واسعة، يتشابكُ داخلها الفكر واللغة والبناء الفنّي بهدف التّعبير عن رؤية شِعرية مكثفة، تُعلنُ موقفَ الشّاعر من الذّات والآخر وتكشفُ عن نظرته للوجود وللعالم. ماذا يعني هذا القول؟ يعني أنّ الكتابة الشعرية بالعامّية أو الدارجة، لا تعني أنه صار شأناً عاماً؛ فالشّعر سيظلُّ، في رأيي، شأناً إبداعياً خاصّاً وفنّ الكثرة القليلة، سواء انكتب بالعربية المعيارية والعامية. ما يعزز هذا الرأي هو أن الشعر العامّي في المنطقة العربية بات مختلفاً ومغايراً لما كان عليه في السابق، فلم يعدْ معنيّاً بالخطابية أو المنبرية، بل صار يراهن على قصيدة شفيفة، هامسة، تستغورُ الذات وسيرها الشخصية، وتنتصر في بنائها للسّطر الشعري وليس للبيت التقليدي.

> إذا ما جعلنا من الشعر العامي موضوعاً لكتابة شعرية بقيم الحداثة والمعرفة الشعرية، ألن يجعلنا ذلك نتخلى عن الأصل في الشعر العامي بوصفه مصدراً من مصادر التقاليد الشعرية الشفوية التراثية؟

- أبداً، يكفي أنْ تلقيَ نظرةً على النسيج الشّعري اليوم في المغرب، وغيره من الأقطار، لترى التجاربَ الشعرية المكتوبة بالعاميّة تتجاورُ فيما بينها. فالملحون، والشّعر الشعبي، والشعر الغنائي... كلّها ممارسات شِعرية تواصلُ حضورَها في المحافل التي تنتعش فيها (الأغنية، والمهرجانات، والمواسم الفنية...) إلى جانب الشعر العامّي الحديث الذي يحرصُ شعراؤه على وجوده بين دفتي الديوان. المهم أن التعبير باللغة الأم، وباللسان الذي نحلم به، سواءٌ أكان أفقُه حداثياً أم تراثياً، لم يعد تعبيراً من الدرجة العاشرة، ولم يعد مقعدُه خلفَ الشعر، بل أخذَ مكانه الطّبيعي ضلعاً من أضلاع القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة، وركناً من أركانها، لا يمكنُ التغافل عن مُنْجزه أو تجاهل تراكماته الجمالية والفنيّة التي تُغذّي المتخيّل الشّعري المغربي والعربي على حدّ سواء.


مجموعة شعرية فرنسية للأطفال بالعربية

مجموعة شعرية فرنسية للأطفال بالعربية
TT

مجموعة شعرية فرنسية للأطفال بالعربية

مجموعة شعرية فرنسية للأطفال بالعربية

«ثقوب في الريح» مجموعة شعرية للأطفال والفتيان وذويهم للشاعر الفرنسي برنار فريو، صدرت ترجمتها عن دار «ميزر» في السويد إلى اللغة العربية، أنجزتها الدكتورة رابحة الناشئ وكتبت لها مقدمة تقول فيها: «إنها تُقرأ كمزيج من الأفكار على شكل مذكرات أو يوميات حميمية، أحياناً تكون مضحكة أو مبهجة وأحياناً حزينة ومعتمة».

إن إشراك ذوي القراء الذين تتوجه إليهم هذه الأشعار – الأطفال والفتيان - في قراءتها يأتي من الفهم الصحيح لدورهم في عملية التربية الأخلاقية والذوقية لأولادهم.

وهذه الأشعار - كما ورد في تقديمها - «جميلة ورقيقة ومليئة بالعواطف والأحاسيس، قدمها الشاعر إلى الأطفال والفتيان وذويهم في رحلة ممتعة إلى أرض الكلمات».

والشاعر برنار فريو من مواليد باريس 1951 عمل مدرساً للأدب فترة طويلة وتركزت اهتماماته بممارسات القراءة للصغار والمراهقين، كما شغل مسؤولية هيئة كتب للأطفال في فرانكفورت في ألمانيا، ويعرِّف نفسه بأنه كاتب عام يحتاج إلى اتصال منظم مع قرّائه من هذه الفئات العمرية لتتولد داخله المشاعر والصور التي تولد منها قصصه. والقراءة عنده مثل الكتابة عمل إبداعي وكذلك يرى من وظائف النص الأدبي أن يشجع قارئه على بناء تفسيره الخاص بدقة وحرية.

وقد قدّم فريو ألواناً مختلفة من الإبداع ضمن التأليف إلى المبتدئين؛ القصص القصيرة والروايات والمجموعات الشعرية والمسرحيات والأغاني. وقد رُشح لنيل جائزة نوبل عام 2019 - 2020.

أما المترجمة رابحة الناشئ فهي باحثة عراقية متخصصة في علم الاجتماع. ترجمت لعدد من الشعراء الفرنسيين إلى اللغة العربية وترجمت أيضاً شعراء عرب إلى اللغة الفرنسية.من قصائد الكتاب:

أنا أنظر إليهِ

هوَ ينظر إليَّ.

أنا أبتسِم لهُ

هوَ يبتسم لي.

أعمل تكشيرة في وَجهي

هوَ يفعل ذلك أيضاً.

لكن عندما أغمضُ عيني

هوَ يختفي.

إنهُ انعكاس لي

انعكاس في المرآة.

إن هذا يُطَمئنني

وَيخيفني.

عندَما يكونُ هنا

أكونُ موجوداً بالفعل

وَعندَما يُغادِر

مَن سيتذكرني؟


هل طردت جوائز الشعر «العمودي» شعراء النثر؟

محمد الماغوط
محمد الماغوط
TT

هل طردت جوائز الشعر «العمودي» شعراء النثر؟

محمد الماغوط
محمد الماغوط

يُثير حديث العودة إلى قصيدة النثر أسئلةً عن رهاب الهيمنة الشعرية، وعن مشاكلتها مع التاريخ والسياق، ومع مفاهيم «الفحولة» و«العمود»، فهل يكون هذا الحديث محاولةً لإعادة الثقة بـ«ناثري الشعر»؟ وهل الاكتفاء بجوائز الشعر «العمودي» جعل شعراء النثر مطرودين، وخارج لعبة الضوء والتنافس؟

هذه الأسئلة تبدو مفارقة، وفاجعة أحياناً، ليس لأن «قصيدة النثر» تجاوزت ما هو أجناسي، لتحضر بوصفها شكلاً وأداءً في الممارسة الشعرية، لها شعراء رواد، و«أبطال» جعلوا منها حافزاً على إعادة قراءة التاريخ الشعري، واستغوار مساحاته التي يمكن أن تتسع للمغامرين.

ما بين هذا وذاك، تحضر أسماء وظواهر بعينها، لتجعل السؤال الشعري قابلاً للجدل والمشاكلة، لا سيما في الحديث عن أسماء مثل أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وظواهر مثل مجلة «شعر» ومجلة «مواقف».

«هو بيننا الأنقى» عبارة أطلقها الشاعر أدونيس على أنسي الحاج، حملت معها اعترافاً ضمنياً بجدّة «قصيدة النثر»، فجعل من النقاء الوجودي قريناً لـ«النقاء الشعري»، وربط ذلك بالشغف العميق بحيوية نظرته للتجديد والمغايرة، إذ يردف ذلك التوصيف بالمراجعة عبر قوله: «كلنا ملوثين بالتقليد، فمعك، يا أنسي، يزداد استمساكنا بحبل الرؤيا، يتّسع أسلوبنا في التعبير عنها، وينمو ويُغنى، يصبح لنا نوع آخر من الشعر، ومن النثر أيضاً».

إنسي الحاج

هذا القول، يضعنا إزاء حساسية أدونيس لقصيدة أنسي الحاج ولخصوصيته في كتابة قصيدة النثر، وعلاقة هذه القصيدة بالتجديد، بوصفه رهاناً على الحلم بالتطهير الشعري، وعلاقة هذا التطهير بفاعلية الوعي بالتجديد، وبالنزوع إلى جعل التمرد على التاريخ وعياً بالتغيير، وباتجاه إخراج الكتابة الشعرية من «تابوات الممنوع»، إذ يكون الشعر هو جوهر «الهوية العميقة» مثلما هو شفرتها في التعاطي مع مفاهيم الجدّة والحداثة، التي تعني - بالضرورة - مساءلة مركزيات «تاريخ الشعر»، ومقاربة مداولاته النقدية/ المفاهيمية، وصولاً إلى التعرّف على لحظات المفارقة الصادمة بين التاريخ والمغامرة، بوصفها تمثيلاً لثنائية «المطابقة والاختلاف»، فبقدر ما تاريخ الشعر حافلٌ بقوة المركزية ومطابقتها، فإنه حافل بمغامرين حالمين بالاختلاف مثل أبي نواس وأبي تمام، وصولاً إلى ما حفلت به القصيدة الأندلسية، وأحسب أن الحديث عن مجلة «شعر» اللبنانية يدخل في سياق تلك المفارقة، وفي التبشير بـ«مشروع القصيدة الجديدة»، كما أشار لذلك الشاعر يوسف الخال في افتتاحية العدد الأول من المجلة، إذ ارتهن هذا المشروع بطبيعة القلق الذي كان يعتور المسار الشعري، وبجرأة الأسئلة الفارقة التي أثارها شعراء الريادة في العراق؛ السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي.

لا يمكن قراءة مشروع القصيدة الجديدة، إلّا في سياق نزوعها لمفارقة تاريخ المركزة الشعرية، والخروج من النظام الصارم إلى حساسية العالم، حيث تكون هذه القصيدة «وعياً جديداً للعالم»، وسؤالاً وجودياً محفوفاً بالقلق والتململ، واستكناه أشكال كتابية تتمثّل هاجس المغايرة.

أدونيس

هذا المعطى التجديدي ليس بعيداً عن المتغيرات السياسية العالمية، ولا عما حدث في الواقع العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية من تحولات، جعلت من مجلة «شعر» وكأنها حاضنة لبعض التوجهات الليبرالية التي أطلقها «الحزب القومي السوري» الذي التف حوله عدد كبير من المثقفين العرب في لبنان وسوريا، من أبرزهم يوسف الخال وأدونيس وعصام محفوظ وعادل ظاهر، ورغم ما أثير حول «المجلة» من لغط يخصّ مصادر تمويلها، فإنها كانت علامة فارقة على مسار التحول الفارق في الشعرية العربية، وانغمارها في استشراف أفق شعري جديد، على مستوى الوعي بالأشكال الشعرية، وعلاقة الشعر بالآيديولوجيا، أو على مستوى الوعي بالعلاقة مع الآخر، إذ تحولت المجلة إلى «مجال ثقافي» مفتوح على المغايرة، حيث استقطب أفكاراً جديدة، وأطروحات مثيرة للجدل، لا سيما في الكتابة والترجمة، وفي الانفتاح على تابوهات ثقافية، تخص قضايا إشكالية مثل الهوية والتاريخ والأمة والدين، فضلاً عن إشكالية الكتابة الشعرية ذاتها، وهو ما بدا واضحاً وصادماً بعد ترجمة أدونيس لفصول من كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الذي تحول إلى منهل سحري وغاوٍ لمواجهة مركزية التاريخ والنمط الشعري السائد.

كما أنّ التلازم بين ليبرالية الوعي وليبرالية الكتابة استقطب - من جانب آخر - عدداً مهماً من الأدباء العرب إلى مغامرته، لا سيما الشعراء ذوي النزعات التجديدية مثل السياب وسلمى الخضراء الجيوسي ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وحليم بركات وفؤاد رفقة وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.

أثارت هذه المجموعة «الثقافية» أسئلة جديدة، وتحدياً جديداً، كشف عن المخفي في الصراعات الثقافية والآيديولوجية، فبدت ليبرالية مجلة «شعر» وكأنها «ضدٌ نوعيٌّ» لمجلة «الآداب» البيروتية ذات التوجه القومي الناصري، وكذلك في مواجهة ما كانت تطرحه مجلة «الثقافة الوطنية» ذات التوجهات الماركسية التقليدية، التي استثمرت أجواء انتصار معسكر الحلفاء والقوى الاشتراكية في الحرب العالمية الثانية، فاستغرقتها أطروحات الأدب الثوري والأدب الملتزم.

التوصيف والمغامرة

توصيف قصيدة النثر بأنها «روح التصميم الحداثي»، كما قال الشاعر كمال خير بك، أطلق العنان للحديث عن علاقتها بالمتغيرات الكبيرة، غير البعيدة عن التأثرات بمتغيرات «الحداثة» الشعرية في أوروبا، ومخاضات التجديد في فلسفات التنوير والإصلاح، التي وجدت في الترجمات الفلسفية، والشعرية، هاجساً لمقاربة أسئلة الوعي العميق بتوصيف مغامرة كتابة هذا الشعر، لا سيما عند الشعراء الفرنسيين والإنجليز والأسبان، إذ أعطت هذه المتغيرات زخماً دافعاً، جعلها مفتوحة، وقريبة من هواجس المثقف العربي المسكون بصراع «التاريخ والحداثة» والغامر في صراعات سياسية واجتماعية جاءت بعد الحراك الثوري والانقلابات العسكرية في مصر والعراق ولبنان، وكذلك بعد نجاح الثورة الجزائرية وبعد معركة التحرير والاستقلال.

مغامرة الكتابة الجديدة بدت وكأنها حساسية فائرة إزاء ما يجري في الواقع، وهذا ما أعطى لمشروع القصيدة الجديدة أفقاً غير واضح الملامح، وتوصيفات توزعت بين «الثورة، التمرد، المغامرة، الانقلاب» أعادت الشاعر إلى نرجسيته، وإلى إحساسه بأن العالم لم يعد ضيقاً، وأنه غير محكوم بذاكرة النوع الشعري الواحد.

اقتران قصيدة النثر بمجلة «شعر» لم يكن واضحاً، فالحديث عن «مشروع القصيدة الجديدة» كان هو الهاجس، والمُحرّض على المغامرة الشعرية، لكن موضوع هذه القصيدة بدا واضحاً بعد ما كتبه الشاعر محمد الماغوط في العدد الخامس من المجلة، وكذلك بعد ما كتبه أنسي الحاج، الذي وضعه عنواناً لبيانه الشعري المنشور مع مجموعته الشعرية «لن»، إذ استشرف هذا الشاعر سؤالاً وجودياً رافضاً للنمط القديم، وباعثاً لروح جديدة عبر الشكل الجديد، وعبر الرؤيا الجديدة التي أدرك ضرورتها بمواجهة ما يعتور النمط القديم من شيخوخة وتكرار وترهل... ولأن مشروع الحديث ومفارقة النمط في المجلة كان مضطرباً، فكان بروز إشكالية فهم التحديث من أكثر عوامل الإغلاق الأول للمجلة، لا سيما بعد ما أثارته قراءة يوسف الخال لمجموعة شاعر العامية اللبنانية ميشيل طراد، من أسئلة تخص هوية المجلة، وهوية المشروع الشعري، والطابع «الشعبوي» الذي اقترن بما هو هامشي في الثقافة العربية، لا سيما تمثيل الهامش اللغوي عبر تحفيز الكتابة باللهجات المحلية، وهو ما جعل البعض يدرك خطورة هذا النزوع الذي يُهدد هوية «الشعر العربي» عبر تهديد اللغة، مثلما جعل من مشروع المجلة وكأنه مشروع «تسقيطي» يهدف إلى المغالاة بالثقافات المحلية، مما دفع أدونيس الفاعل في تأسيس المجلة إلى التقاطع مع يوسف الخال، ومع مشروعه في «لبننة» توجهاتها الشعرية، وهو ما قاد شعراء آخرين إلى التمرد على سياسة المجلة مثل خليل حاوي ونازك الملائكة وصولاً إلى خروج أدونيس عنها.

أثار وعي المغامرة الشعرية جدلاً مفاهيمياً حول هوية هذه القصيدة وحول شرعيتها، وهل أن حيازتها على عناصر جمالية وكثافة صورية تكفي لإعطائها «حق الإقامة» في المجال الشعري؟

هذه الإثارة ظلت محط شّذٍ وجذب، فرغم أهمية مجلة «شعر» في حماية هذه القصيدة، فإن واقع الحال جعلها تبدو الأقرب إلى تمثيل المفارقة في تاريخ الشعر العربي الحديث، ولعل ما حدث في الستينيات من القرن الماضي جعلها تدخل في أكثر تحولاته وأحداثه صخباً، وحتى بالحركات التي استغرقت الجسد السياسي والثقافي والآيديولوجي العربي، الذي جعل من الانفتاح على «قصيدة النثر» وكأنه انفتاح على جزيرة سحرية، أغوت الكثير من الشعراء بالتطهّر من عقد التاريخ والنمط والمركزة الشعرية، لا سيما بعد الانقلاب الدموي في العراق عام 1963 والهزيمة العربية عام 1967، وهو ما حدا ببعض النقاد والباحثين إلى البحث في التاريخ العربي وأسفاره ومقاماته وخطبه عن جذور لهذه القصيدة، رغم أن أطروحات سوزان برنار حول «قصيدة النثر» قطعت الطريق على ذلك، من خلال التأكيد على عنصر «القصدية» في كتابتها.

التجاوز على تاريخ النمط أعطى للبعض غواية التمرد، والبحث عن أطرٍ «معاصرة» تُعطي للكتابة الشعرية وجوداً متعالياً على مستوى وعي الزمن الشعري في حركاته وتجدده، أو على مستوى الصياغة والتركيب والكثافة والإيحاء بما يشبه «الإيقاع الداخلي» كغطاء نظري لربط الشكل بالتوصيف الشعري، وعلى نحوٍ يجعل من هذه الكتابة تعبيراً عن وعي حاد باستحداث فهم مجاور وجديد للشعر يقوم على توكيد مفهومي للمغايرة والتجاوز، أشار إليه أدونيس بالقول «لم تعد حركة الشعر الحقيقية وسط الركام الكثير للموروث مرتبطة بالسياسة أو الأخلاق والعادات العامة والشائعة، بقدر ارتباطها بحركة التطور الحضاري، ولم يعد الشعر بمعنى آخر للفائدة والمنفعة، بقدر ما أصبح عملاً إبداعياً داخلياً يجد فيه الشاعر تعزيته وخلاصه».

مغامرة الكتابة الجديدة بدت وكأنها حساسية فائرة إزاء ما يجري في الواقع

الشعرية والتجاوز

من الصعب القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل، لأن هذا التوصيف سيجعلها وكأنها تحمل معها معياراً يُحدد كل ما يتعلق بمفهوم «الشعرية» وحتى بطبيعة التجاوز الذي هو تمثيل لحركة دائبة، فالشعر في هذا السياق يجعل من فكرة «الشعرية» جوهراً للقيمة، وللحساسية التي ينبغي أن تتمثلها القصيدة في سياقها الوجودي، وحتى في تمثيل الذي تحمله «قصيدة النثر» بوصفها تقع في المفارقة، وفي التجاوز ذاته، وفي إعطاء التجاوز طابعاً مفهومياً يعكس فلسفة الوعي بالوجود، وبخصوصية الشاعر في النظر إلى العالم، فهذا الشاعر «لا يستطيع أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً، إلّا إذا عانى في داخله من انهيار المفهومات السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر، إذا لم يكن عاش التجدد».

فإذا كانت الشعرية تعني دراسة فعل اللغة في الشعر، عبر التعرف على انزياحاته، فذلك يجعلها مرهونة بدراسة «شعرية الخطاب» كما عند تودوروف، و«الوظيفة الشعرية» كما عند جاكوبسن، أو بدراسة «الانزياح» كما عند جون هوكين، أو بشعرية الفجوة - مسافة التوتر كما عند كمال أبو ديب، أو بشعرية الرؤيا كما عند أدونيس، وهذه الوظائف تنطلق من فكرة «أن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعراً، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق»، وبما يُعطي لفاعلية التجاوز وعياً بحمولات الشعرية ذاتها، لا سيما في النظر إلى قصيدة النثر، بوصفها أداء تتكثف فيه الوظيفة والانزياح والرؤيا، وبما أن هذه القصيدة قد كرست حضورها، فإن مفهوم الشعرية يظل مفهوماً مُحفِزاً على المساءلة والتجاوز، وحتى على إعادة التعريف والتوصيف، وربما للقبول بشكل شعري جديد ومغاير.


«الحب والإدمان»... تداخل وتطرف في التأثير

«الحب والإدمان»... تداخل وتطرف في التأثير
TT

«الحب والإدمان»... تداخل وتطرف في التأثير

«الحب والإدمان»... تداخل وتطرف في التأثير

يسعى كتاب «الحب والإدمان» لمؤلفيه ستانتون بيلي وآرتشي برودسكي، بترجمة نيفين بشير «آفاق للنشر والتوزيع بالقاهرة»، إلى فتح نقاش معرفي ونقدي حول الصلة بين عالمي الحب والإدمان، ليس بالصورة المجازية التي ترتبط برومانسية العلاقة بالحبيب، بقدر ما يُقصد بها إدمان علاقات عاطفية اعتمادية رغم ما تتسبب فيه من عواقب غير حميدة، كالوِحدة والعزلة والشعور بعدم الأمان.

يرى مؤلفا الكتاب أن العلاقات الشخصية الوثيقة يمكن أن تسبب الإدمان، وأن هذا النوع من الارتباط هو عكس علاقة الحب تماماً، حيث «الحب الحقيقي عكس التجربة المُقيدة لإدمان الحب»، حسبما يشير المؤلفان.

ويُعد ستانتون بيلي خبيراً ومُحاضراً في مجال الإدمان لما يزيد على 40 عاماً، وعُدَّ رائداً في وضع مجال الإدمان أمام فهم تجريبي وثقافي، أما آرتشي برودسكي فهو المؤلف المشارك لأعمال ستانتون البحثية، وقد ترأس لجنة حقوق الإنسان في «مركز ماساتشوستس للصحة العقلية».

إدمان الحب

حسب الكتاب، الذي يقع في 463 صفحة، فإن إدمان العلاقات الشخصية «إدمان الحب»، يعد أكثر أشكال الإدمان شيوعاً، وإن كان أقلها شهرة، ولعل تسليط الضوء عليه يساعد على كسر الصورة النمطية عن المدمن، والتوّصل لفهم أفضل للطريقة التي يؤثر بها الإدمان علينا جميعاً، حيث نقيض الإدمان هو الارتباط الحقيقي بالعالم.

يُفند الكتاب أوجه التشابه الجوهرية بين العلاقات الاعتمادية وإدمان المخدرات، عبر استكشاف ماهية الإدمان نفسياً واجتماعياً وثقافياً، من خلال طريقتين: الأولى إظهار ما يحدث بالفعل عندما يكون الشخص معتمداً أو يقاوم الاعتماد على عقار ما، وثانياً من خلال إظهار كيف يمكن أن تحدث العملية نفسها في مجالات أخرى من حياتنا اليومية، خصوصاً في علاقاتنا مع أكثر المقربين لنا، فأوجه التشابه بين إدمان الحب وإدمان المخدرات جوهرية، بما فيها ظهور أعراض الانسحاب كنتيجة للانفصال، وهي فكرة بدا للكثيرين أنها من غير المعقول أن يكون لها سند علمي، ولكنها واقعية.

اعتمد الباحثان في بناء عالمهما البحثي على تواشج قصص أفراد عاديين، مع آراء فلسفية ونفسية، وتحليل لسرديات أدبية حول الحب والتعلّق، في محاولة لفهم جوهر الحب ونوازع الارتباط العاطفي، بصورة كشفت عن تناقضات شاسعة في فهم علاقة الذات بالآخر، والتوازن في مقابل الاحتياج، فيشير الكتاب، على سبيل المثال، لمقطع للكاتب البريطاني ديفيد هربرت لورانس ورد في روايته «نساء عاشقات» يقول: «ما أريده هو ارتباط غير مألوف معك، ليس التقاءً أو اختلاطاً، لكنه توازن، وتناغم نقي لكائنين منفردين، كما تتوازن النجوم بعضها مع بعض»، وهو مغزى يختلف عن ماهية الحب التي وردت في قصيدة لوليام غاريت يقول فيها:

«أحتاج إلى حبك من أجل البقاء

من دونه أنا بالكاد أحيا..».

يعد إدمان الحب أكثر أشكال الإدمان شيوعاً وإن كان أقلها شهرة

مبدأ التكامل

يشير الكتاب لتعبير عالِم النفس والفيلسوف إريك فروم، عن مبدأ التكامل في الحب، بما يكفل للطرفين تحقيق الذات وعزة النفس، فالحب بالنسبة لفروم هو نقيض لإدمان الأشخاص، حيث الحب نمو وتوسيع للعالم وليس محض «ارتباط تكافلي أو أنانية مفرطة». ويذكر الباحثان كتاب إريك فروم البارز «فن الحب» الذي يقول فيه إنه لا يمكن للرجل أو المرأة تحقيق الرضا بالحب إلا عندما يدركان نفسيهما إلى الحد الذي يُمكّن كل منهما من الوقوف كشخص كامل وآمن، وهو أمر لا يمكن فهمه دون فهم الفرق بين النهج الإدماني وغير الإدماني في الحياة، ويعدُّ فروم أن جوهر الإدمان هو الإحساس المتضائل بالذات.

حسب الكتاب، فإن الإدمان ليس فقط الصورة النمطية المرتبطة بالإدمان الكيميائي كما هو شائع، بل إن الإدمان «تجربة» تنشأ عن استجابة الفرد الروتينية لشيء له معنى خاص لديه، شيء يجده آمناً ومطمئناً لدرجة لا يمكن الاستغناء عنه «الإدمان ليس شيئاً غامضاً إنما نمو خبيث ومظهر متطرف وغير صحي للميول البشرية الطبيعية».

ومن الناحية النظرية، كما جاء في الكتاب: «لا علاقة للحب بالإدمان على الإطلاق، فهما نقيضان»، حيث لا شيء يمكن اختزاله من الحب الحقيقي المتعارف عليه، سوى التبعية اليائسة المتمركزة حول نفسها، التي نسميها في حالة المخدرات بالإدمان، وعلى الرغم من أن التجاور بين المصطلحين «الحب» و«الإدمان» غريب، إلا أنهما متداخلان، وأحياناً ما نقول «حب» عندما نعنى حقاً «إدمان».

يبقى اللافت في هذا الكتاب أن الباحثين اتكآ في بحثهما على قصص لأفراد «يُحبون من موقع قوة، وليس احتياجاً، مقابل أفراد محاصرين داخل علاقات إدمانية مُؤذية. وتبدو معظم قصص حبهم نتائج لعزلة حياتهم العائلية في مرحلة الطفولة»، حيث «لعائلاتنا تأثير هائل على قدرتنا الإدمانية أو غير الإدمانية، لأنها إما تعلمنا الثقة بالنفس أو العجز أو الاكتفاء الذاتي والتبعية»، وصولاً لعلاقاتنا بالمؤسسات الاجتماعية التي يمكن أن تغرس بداخلنا شكوكاً جدية حول قدرتنا على إدارة حياتنا، أو التفاعل بشكل خلاق مع بقية العالم، ما يجعل من أبرز الطرق لحماية أنفسنا من الإدمان فهم كيفية تأثير بيئتنا الاجتماعية علينا، والوعي الذاتي النقدي، وتعلم طرق أفضل للتعامل مع الأشخاص، ليس فقط في العلاقات الرومانسية، ولكن ينطبق على الروابط العائلية والصداقات.


مكسيم غوركي ينشر قصائد الريحاني بترجمة كراتشكوفسكي!

غوركي
غوركي
TT

مكسيم غوركي ينشر قصائد الريحاني بترجمة كراتشكوفسكي!

غوركي
غوركي

كان لقائي الأول بأمين الريحاني في إحدى الجرائد الصغرى ببيروت سنة 1910م وكان قد رجع من أميركا، وقد أحسست بتعمقه في التأمل، وأن لديه مقدرة كبيرة ترتفع فوق مقدرة صحافيين وخطباء مشهورين في سوريا... تبين هذا الإحساس عندما ظهرت - وقتذاك - مجموعة مقالاته وأشعاره المنشورة في جزأين، كما أنه ارتاد مبكراً كتابة قصيدة النثر في ديوانه «هتاف الأودية» سنة 1910م متأثراً بالشاعر الأميركي والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب»... فأراد كراتشكوفسكي تعريف القراء الروس بالريحاني في كتاب يحتوي ترجمته، لكن ذلك ظهر في فترة صعبة قبل أسبوعين من ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917م، فكان كالنغمة النشاز - كما يُعَبِّر- تدُقّ في غير أوانها، فلم ينل سوى الزجر والتأنيب على صفحات الجرائد... بل إنه تعرض في أعقاب الثورة سنة 1922م للاعتقال بتهمة وجود صلة بين زوجته وأسرة فنلندية، غير أن كراتشكوفسكي استثمر تدخل أكاديمية العلوم الروسية، التي لم تفلح في إطلاق سراحه، فراح يقرأ في كتب مختصة باللغة العربية والتاريخ الإسلامي! حتى أُخليت سبيله بعدما ثبتت براءته وزوجته من التهمة الكيدية... وحين رجوعه إلى عمله في معهد الاستشراق، تواصل هو والريحاني عبر مراسلات بينهما، فأرسل إليه كتابه بعدما رجع في تأليفه إلى أشعار الريحاني التي ترجمها ونشرها في مجلة «الشرق» التي أسسها مكسيم غوركي 1868 – 1936م.

كراتشكوفسكي

كانت نظرة مؤلف رواية «الأم» التي بشّرت بالرواية الواقعية إثر ثورة أكتوبر الاشتراكية، أكثر إنصافاً لكراتشكوفسكي والريحاني، من نظرة أولئك النقاد الذين دشنوا بين سنة 1917 و1918م بداية انطلاق مرحلة النقد «الآيديولوجي».

هذا ملخص ما ذكره إغناطيوس كراتشكوفسكي 1883 – 1951م في كتابه الممتع «مع المخطوطات العربية» سارداً بأسلوبه الأدبي الجذّاب، مغامراته المثيرة مع عالم المخطوطات المتجهم الجاف.

وقتذاك وصل إلى روسيا ميخائيل نعيمة، بعدما أنهى السيمنار الروسي بتفوق في دار المعلمين بالناصرة... وهي وغيرها من مدارس تابعة للطائفة الأرثوذكسية، كانت تدار من حكومة القياصرة مباشرة... وقد حصل نعيمة وفق ذلك على بعثة دراسية لاستكمال دراسته في بلادهم، فتفاعل مع حياة زملائه الروس وشاهد إرهاصات ثورتهم البلشفية، قارئاً - بتأثر - روائع الروايات الروسية المكتوبة بلغتها... كما فصّل ذلك في كتاب رحلته الثانية إلى موسكو منتصف الخمسينات «أبعد من موسكو ومن واشنطن».

وفي سياق التبشير بالحضور الروسي في الشرق العربي، سجّل قبل ذلك رحَّالة وكُتَّاب وشعراء روس انطباعاتهم عن الأرض المقدسة... ومن بينهم شاعر روسيا البارز ميخائيل ليرمنتوف 1814 – 1841م الذي كتب قصيدة بارعة بعنوان «غصن فلسطين» يقول فيها:

حدثني يا غصن عن فلسطين

أين كنت تنمو وأين كنت تزهر

أي وديان وهضاب كنت تزين...

هل كان أبناء القدس الفقراء

يصلون بصوت خافت

عندما يجدلون وريقاتك

أمين الريحاني

وكان كراتشكوفسكي ممن وفد إلى فلسطين ولبنان وسوريا سنة 1908م... ربما لغرض تبشيري... ومع ذلك فقد كان الكتاب العربي - المخطوط منه خاصة - همه الأكبر بحثاً وتنقيباً وتحقيقاً، متواصلاً مع المهتمين به والمقتنين لذخائره... الأب لويس شيخو في لبنان وأحمد تيمور في مصر، وغاشياً المكتبات العامة التي تضم مخطوطات عربية في القدس ودمشق وبيروت والقاهرة والإسكندرية... كاشفاً النقاب عن المجهول من نفائسها.

يذكر أنس خالدوف 1929 – 2001م المحقق الأكاديمي التتري مؤلف كتاب «معجم المخطوطات العربية في روسيا»، وهو يعتني بتحقيق ونشر كتاب «المنازل والديار» لأسامة بن منقذ لأول مرة برعاية المتحف الآسيوي ببطرسبرغ سنة 1961م، أن الفضل في ذلك يعود إلى من أصبح واحداً من أنشط عمداء المتحف... يعني كراتشكوفسكي الذي نَبَّه المحققين من المستشرقين والعرب إلى وجود أصل مخطوطة الكتاب بخزانة المتحف، في مقال له نشره في مجلة المجمع العلمي بدمشق سنة 1925م... كما أن كتاب «البديع» لابن المعتز، ما كان له أن ينتشر بين أوساط المهتمين بدروس البلاغة العربية، لولا كشف كراتشكوفسكي أصل مخطوطته ونشرها... وكذلك فعل مع الشاعر المتفلسف الذي فُتِنَ به أبو العلاء المعري في كتابه «رسالة الملائكة»... وغيرهما من كتب محققة ودراسات أدبية عن الشعر العربي القديم والأدب العربي الحديث في عدة كتب بحثية، يأتي على رأسها كتابه الضخم «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» (بجزأيه) المُعتَمَد مرجعاً للباحثين في البلدانيات والمواقع، التي ذكرها الجغرافيون ووقف عندها الرحَّالة في مختلف الحقب.

وفي سياق الحج الروسي إلى فلسطين يذكر بيوتر غريز نيفيتش الباحث الروسي في بحثه «القرآن في روسيا» المنشور في الكتاب الصادر سنة 1986م من أكاديمية العلوم السوفياتية بعنوان «أبحاث جديدة للمستعربين السوفيات»، أن الرحَّالة والدبلوماسيين والمستشرقين الروس كانوا يعودون إلى بلدهم، وهم مأخوذون بحياة الشعوب الإسلامية وفكرها الديني في العالم العربي، واصفين في كتاباتهم عمارة المساجد والطقوس والأعياد الدينية في مجتمعاتها، بما في ذلك وصف مكة المكرمة والمدينة المنورة... ولهذا تمت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر أولى ترجمات القرآن الكريم إلى البيلاروسية، وتحمس باني روسيا وإمبراطورها المُجدِّد بطرس الأول 1672 – 1725م في سياق علاقة بلده التجارية بالشرق العربي، نحو طباعة القرآن الكريم بلغته العربية، بعدما أمر سنة 1712م بإنشاء مطبعة بحروف عربية خاصة بذلك، وترجمته - رغم موقفه المتحامل على الإسلام - إلى الروسية؛ إذ كانت ترجمة القرآن إلى الفرنسية هي الشائعة في أوساط النخبة من دبلوماسيين وكتاب وشعراء، وفي الطليعة ممن قرأ بها القرآن الكريم شاعر الأمة الروسية الأكبر ألكسندر بوشكين 1799 - 1837م المُتَحَدِّر «حبشياً» من والدته حفيدة أبرام بتروفيتش جانيبال، الذي ضمه بطرس الأكبر إلى جملة موظفيه وخدمه في قصره.

لقد فُتِن بوشكين عبر الترجمات، بقصص الحب والأساطير العربية والليالي المصرية، وبُهِر كثيراً بنظم القرآن وبلاغته وإيقاعه، فراح يستلهمه في قصائده... بل إنه قام بإعادة صياغة سورة «الحجرات» في واحدة من قصائده التي تعارف عليها دارسو شعره بقصائد «محاكاة القرآن»، وقد عدّه ملهمه الأول الذي أذهل مخيلته... يقول في بعض شعره القرآني:

في المغارة السرية

في يوم الهروب

قرأت آيات القرآن الشاعرية

فجأة هدأت روعي الملائكة

وحملت لي التعاويذ والأدعية

كذلك يبدو التأثر القرآني واضحاً هنا:

أقسم بالشفع وبالوتر

أقسم بالسيف ومعركة الحق

أقسم بنجمة الصبح

أقسم بصلاة العصر...

ألست أنا الذي سقيتك

من ماء الصحراء يوم العطش

ترك القرآن الكريم أبلغ الأثر لا في شعر بوشكين وحده وإنما في الأدب الروسي... وعمل كراتشكوفسكي على ترجمة معاني القرآن الكريم من العربية إلى الروسية

لقد ترك القرآن أبلغ الأثر لا في شعر بوشكين وحده وإنما في الأدب الروسي، وكان من بينهم كراتشكوفسكي الذي عمل هو الآخر على ترجمة معاني القرآن من العربية إلى الروسية، وقد أتقن اللغة العربية والكتابة بخطها النسخي، مؤكداً أصالة بلاغتها من أي تأثر يوناني - كما ذهب إلى ذلك قدامة بن جعفر 873 - 948م في كتابه «نقد الشعر» - محاولاً تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها ترجمات القرآن السابقة.

أما أمين الريحاني 1876 – 1940م الذي اهتم كراتشكوفسكي بأدبه وشعره، قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية وبعدها، فقد هزه هذا الحدث العالمي المزلزل، فطفق يعالج أسبابها ونتائجها في كتابه «تحدر البلشفية» محاولاً تلمس جذور هذه الثورة الشيوعية في بعض الفرق الإسلامية (القرامطة والحشاشون وغيرهما من عقائد برزت قبل مجيء الإسلام)، متبنياً الموقف الغربي وإعلامه المناوئ لثورة أكتوبر، مؤلفاً كتابه هذا باللغة الإنجليزية، وهو في أميركا سنة 1920م حين بدأ اسمه يلمع في الصحافة الأميركية، وقبل ذلك برز سنة 1911م بروايته «كتاب خالد» التي كتبها كذلك باللغة الإنجليزية، معالجاً فيها هجرة اللبنانيين إلى المهجر الأميركي - من بعلبك إلى نيويورك - داعياً فيها إلى استلهام الديمقراطية الأميركية، بمواءمتها مع الثقافة العربية في مشروع العرب الإصلاحي النهضوي المنتظر... لذلك حذر الريحاني المجتمع الأميركي في كتابه «تحدر البلشفية» من عقابيل الثورة الشيوعية في روسيا، وقد توقع سقوطها وحكمها البلشفي سنة 1950م في مقال ضَمَّنه في الجزء الأول من كتابه «الريحانيات»؛ لأنها شرعت «حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي»، حسب تعبيره، عادّاً أن الحكم الاشتراكي سوف يتبعه نوع من الحكم يأخذ بالأصلح من الأشكال السابقة... مستوحياً في حكمه وتوقعه هذا، ما جرى من نكسات في أعقاب «الثورة الفرنسية» التي ألف كتابه نبذةً عنها.

حذر الريحاني المجتمع الأميركي من عقابيل الثورة الشيوعية في روسيا... وقد توقع سقوطها وحكمها البلشفي سنة 1950م

هل لهذا عدّه الشاعر العراقي الثائر محمد مهدي الجواهري جاسوساً للأميركان؟! والريحاني يحل في «قلب العراق» سنة 1922م ضيفاً على الملك فيصل الأول إثر تتويجه عرش العراق برعاية البريطانية المس غيروتد بيل وقتذاك... مع هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي على الشرق العربي ومغربه، بدأت الأفكار الماركسية تتسلل إلى أوساط المثقفين والحركيين في تلك الدول العربية المستعمرة، وقد قام أول حزب شيوعي عربي في مصر سنة 1922م، غير أن كتاب الريحاني عن «تحدر البلشفية» رغم ذلك لم يترجمه إلى اللغة العربية - وقتها - بل انبرى لترجمته - أخيراً - ليس ابن أخيه أمين الريحاني العاكف على تحقيق ونشر تراث عمه... بل انبرى لذلك سنة 1988م مترجمان لبنانيان آخران، بحماس دار نشر عُرِفَت بميولها الآيديولوجية، لكن ذلك تم بعد رحيل الريحاني بقرابة نصف قرن. وكانت بيريسترويكا غورباتشوف - بعد انتهاء فترة حكم بريجنيف المتجمدة - تلوح في الأفق، متأخرة عن توقع أمين الريحاني بقرابة أربعة عقود.

هذا، ولم تنسَ روسيا الريحاني، رغم مرور السنين وتعاقب الأحداث، عندما أقامت مكتبة بوريس باسترناك سنة 2010م أمسية موسيقية وأدبية من أماسي موسكو النوستالجية، احتفالاً بأمين الريحاني شاعراً وناثراً، قرئت فيها نصوص «ريحانية» اختارتها المستشرقة ماريا نيكولاييفا باللغتين الروسية والعربية، مشيرةً إلى أن ما قرأته مأخوذ من ترجمة المستعرب الروسي كراتشكوفسكي، الذي افتتح دراسته أدب الريحاني سنة 1917م بترجمة قصائده النثرية إلى الروسية، فوق صفحات مجلة مكسيم غوركي الأدبية.


تعليم العربية في المهاجر... غياب مرجعية موحدة

تعليم العربية في المهاجر... غياب مرجعية موحدة
TT

تعليم العربية في المهاجر... غياب مرجعية موحدة

تعليم العربية في المهاجر... غياب مرجعية موحدة

إذا كان التّحدّي الذي تواجهه اللّغة العربيّة اليوم يكمن في الحفاظ على هويّتها في مواجهة المفردات الدّخيلة التي تشنّها عليها وعلى غيرها من اللّغات لغة التّكنولوجيا المكتسحة، فإنّ التّحدّي الأكبر هو كيفيّة المحافظة عليها في المهاجِر، حيث يُفترَض أن يتكلّم الإنسان لغة غير لغته، ويعيش في مجتمع مختلف عن مجتمعه.

«كيف يتعلّم أبناؤنا العربيّة في المهاجِر؟»، كتاب صادر عن مؤسّسة الفكر العربيّ يلقي الضّوء على هذه النّاحية المهمّة في حياة الأفراد الذين اضطرّتهم الظّروف الاقتصاديّة أو السّياسيّة أو العلميّة أو غيرها إلى الهجرة والإقامة في بلد ناطق بلغة أخرى.

وتتصدّر الكتاب توطئة للدّكتور هنري العويط، المدير العامّ لمؤسّسة الفكر العربيّ، و3 مداخل. ويضمّ مجموعة من الأبحاث تقسم بدورها قسمين: قسم يتناول العربيّة في المهاجر الأوروبيّة، وآخر يتناولها في المهاجر الأميركيّة والأستراليّة والأفريقيّة.

في المبحث الأوّل يتكلّم د. طارق بو عتور على موضوع: «مقاربات في تدريس العربيّة لأبناء الجاليات التّونسيّة في المهجر». فيلقي الضّوء على الجهود الحثيثة المبذولة منذ سبعينات القرن الماضي لأجل تمتين الصّلة بين أبناء الجيل الثّاني من المهاجرين ووطنهم الأصليّ، وضرورة توطيد الصّلة بالوطن الأصلي، لا سيّما أنّ الظّروف تختلف بين الآباء والأبناء. كما يعدّد المراكز التي اهتمّت بالعربيّة، ويدرس عيّنات المجتمع، فيعرض وضع تدريس أبناء الجالية التّونسيّة في المهاجر، والدّوافع التي تكمن وراء الرّغبة في تعلّم اللّغة الأصليّة، ويعرض منهجيّات التّعليم، ويعيب على بعض المعلّمين أنّهم غير مختصّين، والذين يتقنون لغة الضّاد منهم يفتقرون إلى التّكوين التّربويّ والبيداغوجيّ الكافي الذي يمكّنهم من إيصال المعلومة وتحفيز المتعلّمين. ويخلص إلى نتيجة أن ثمّة ثغرات يجب على الدّولة معالجتها، منها: تشعّب التّخصّص، والتّباين بين الدّارسين، وتنوّع أهداف الأهل والدّارسين، واتّساع الرّقعة الجغرافيّة، والحاجة إلى تنظيم هذا القطاع. ولبلوغ الغاية ينبغي: النّهوض بوضع اللّغة العربيّة، وعقد الصّلة بين المسائل النّظريّة والمسائل التّطبيقيّة، وترشيد الموارد البشريّة والماليّة، وإحداث هيئة عربيّة مشتركة تتولّى تنسيق مجهودات التّدريس، يتمّ الرّجوع والاحتكام إليها.

أمّا في ما يتعلّق بفرنسا، فاللّغة العربيّة ليست حدثاً طارئاً على الحياة الثّقافيّة واللّغويّة. إنّها تعد ثالث مصدر للّغة الفرنسيّة بعد اللّاتينيّة والإيطاليّة. وعلى الرّغم من النّيات الطّيّبة بشأن تعليم اللّغة العربيّة، فهي، في مدينة كومبيان مثلاً، كما يرى د. بسّام بركة، في تراجع بسبب الرّبط العضويّ بين اللّغة والدّين بشكل أساسيّ، والشّعور لدى عدد كبير من المسلمين العرب بأنّ الدّعوة إلى الاهتداء بالدّين الإسلاميّ أهمّ من تعريف العالم بجمال اللّغة العربيّة. كما أنّ تمسّك عدد كبير من العرب المقيمين في فرنسا بلغتهم، قائم على أساس أنّها أساس لهويّة خاصّة بهم تقوم على التّمايز. لذلك، ولأنّ الدّولة الفرنسيّة علمانيّة، فقد أعطت الأولويّة للدّارجات المحلّيّة.

أمّا رنا إبراهيم فعرضت من خلال تجربة ميدانيّة في ضواحي باريس جوانب من العلميّة التّعليميّة لتدريس اللّغة العربيّة لأبناء المهاجرين، فذكرت الدّوافع والأهداف وأحوال مراكز التّدريس، وخلصت إلى شروط لو توافرت لحقّقت نجاحاً أكبر، وهي: تخصيص الوقت الضّروريّ والكافي لعمليّة التّدريس، والتزام التّلاميذ بمراجعة ما يدرسون في قاعة الدّرس، ومتابعة العمليّة التّعليميّة بشكل مستمرّ، وانتساب عدد أكبر من التّلاميذ ما يسهّل توزيعهم في فئات وفق مستوياتهم اللّغويّة، وتوفير برامج تدريبيّة للمعلّمين، وتوفير فرص التقاء المتعلّمين لتحسين التّفاعل اللّغويّ، والتّعاون الإيجابيّ بين الأهل والمعلّمين. كما أشارت إلى تأثير ارتفاع تكلفة المعيشة على دراسة اللّغة، ما يجعل الأهل يفضّلون أن يدرس أبناؤهم الموادّ الإلزاميّة.

أمّا في إيطاليا، فالأبحاث التي تدرس ظاهرة تعليم اللّغة العربيّة ما زالت غير كافية لأنّ الطّلّاب المنحدرين من أصول عربيّة ظاهرة حديثة نسبيّاً. وقدّمت د. إليزا فيريزو بيانات حول الوجود العربيّ في المدارس والجامعات الإيطاليّة، وحاولت حصر أماكن التّعليم في إيطاليا متوقّفة عند إقليم لومبارديا وعاصمته ميلانو، وأشارت إلى الحاجة الملحّة لمواصلة البحث حول منهجيّات العربيّة في إيطاليا بشكل عامّ، وتوسيع الأبحاث المتعلّقة بالدّوافع والسّمات والتّوجّهات المهنيّة.

وعن الوضع في لندن تحدّثت د. نجوى كاظم، فتناولت موضوع المشكلات التي يواجهها الطّلّاب، وارثو اللّغة، كونهم ينحدرون من أصول عربيّة أو إسلاميّة، والتّحدّيات التي يواجهها مدرّسو تلك الفئة في جامعة كينغز في العاصمة البريطانيّة. وبعد جمع بيانات خصّصت منها للطّلّاب ومنها للأساتذة، كشفت النّتائج أنّ وجود طلّاب وارثي اللّغة في فصل مختلط مع طلّاب غير ناطقين باللّغة، حيث يبدأون التّعلّم من الصّفر، يتطلّب التّنمية المهنيّة للمدرّس من حيث المهارات التّعليميّة، وتصميم مناهج خاصّة لطلّاب وارثي اللّغة، ونشاطات خاصّة تلبّي احتياجاتهم، وتصقل مهاراتهم اللّغويّة في فصول مختلفة. كما أوضحت النّتائج أنّ معظم الطّلّاب يفضّلون الفصل التّامّ بين المجموعتين، لأنّ التّعلّم مع طلّاب من أصول عربيّة يتيح لهم تبادل العلم واللّهجات والخبرات اللّغويّة، ويجنّبهم الابتداء من الصّفر.

واللّافت في ألمانيا أنّ دخول العربيّة المناهج الرّسميّة الألمانيّة بات أمراً واقعاً، وإن كان لم يدخل حتّى الآن في البرنامج الرّسميّ للحصص الدّراسيّة. ويعود السّبب في عدم الدّعم الكافي لبعض المدارس المهتمّة باللّغة، وفق د. سرجون كرم، إلى غياب مرجعيّة موحّدة تستطيع السّلطات الألمانيّة الرّسميّة أن تتواصل معها رسمياً. وفي حالة دعم كهذه، من حقّ السّلطات الألمانيّة أن تشرف على برامج تعليم العربيّة في جميع أماكن تدريسها. الأمر الذي يتطلّب: ضرورة وجود سلطة عربيّة عليا تمثّل العالم العربيّ، والوصول إلى كتاب موحّد لتدريس اللّغة.

هذا بالنّسبة إلى أوروبا، أمّا في كندا، البلد الذي يستقطب أكبر عدد من المهاجرين، فقد دعا د. عادل الزّعيم إلى تطوير النّظريّات والتّقنيّات، ووضع خطوات يجب اتّباعها، منها:

-دراسة أوضاع أولاد المهاجرين العرب من الجيل الأوّل والثّاني والثّالث، وتحديد مواصفاتهم واحتياجاتهم، ومستوياتهم من حيث التّمكّن من العربيّة ومن اللّغات الأخرى.

-إعداد مناهج تعليميّة متخصّصة، ودورات تدريبيّة لمعلّمي اللّغة العربيّة.

-مواكبة العصر وحاجات الطّلّاب الحاضرة والمستقبليّة في تطوير المناهج والطّرق.

-الأخذ بعين الاعتبار حاجة المؤسّسات والشّركات لمترجمين ولمن يجيدون لغات مختلفة.

-اعتماد الوسائط الرّقميّة بوصفها وسيلة لتعليم اللّغة العربيّة وتعلّمها.

-نشر الوسائط الرّقميّة المساعدة على تعلّم وتعليم اللّغة العربيّة كالقواميس الإلكترونيّة وغيرها...

أمّا في أميركا فقد أجرى أ. د. عطيّة يوسف استطلاع رأي لعدد من الطّلّاب وارثي اللّغة الذين يدرسون العربيّة، مع التّركيز على المرحلة المدرسيّة التي تعكس توجّه أسر الجاليات العربيّة في رغبة دراسة أبنائهم اللّغة العربيّة، وكشفت له الاستبانة ضرورة وضع منهجيّة موحّدة لتعليم اللّغة العربيّة لوارثي اللّغة، وضرورة أن تلبّي الموادّ التّعليميّة والمنهجيّة احتياجات الطّلّاب المقبلين على تعلّم هذه اللّغة كونها الوسيلة الأساسيّة للتّواصل مع أصولهم وثقافاتهم.

كثير من الكلمات العربيّة دخلت إلى لغة التّخاطب اليوميّ للأستراليين

وقد بيّنت مرح البقاعيّ أنّ اللّغة العربيّة هي الأسرع نموّاً بين اللّغات في الولايات المتّحدة، فقد زاد الاهتمام بها بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وهي لغة ضروريّة في سوق العمل نظراً للحاجة إلى التّحدّث بلغة النّظير في مجال البحوث العلميّة والأكاديميّة والدّوائر الدّبلوماسيّة والاتّفاقات الدّوليّة. كما بيّنت أنّ اهتمام العائلات التي انتقلت للعيش في أميركا بتعليم أولادهم اللّغة العربيّة نابع من دوافع دينيّة. وأشارت إلى أماكن تدريس اللّغة العربيّة وعدد التّلاميذ المنتسبين، كما تكلّمت على المنهج المعتمد في مدارس اللّغة العربيّة المرخّصة، وكيف عملت الولايات المتّحدة في مجال التّعليم لمعالجة موضوع التّحدّي الذي يواجه العربيّة، وهو الازدواجيّة بين الفصحى والعامّيّة. وأشارت إلى أهمّيّة التّعدّد اللّغويّ والتّنوّع الثّقافيّ.

وقد عدّد الأستاذ جورج هاشم الصّعوبات التي تواجه تدريس اللّغة العربيّة في أستراليا، لكنّه نوّه بأنّ مستقبل هذه اللّغة واعد؛ لأنّها ثالث لغة محكيّة في البلاد، وهي لغة التّخاطب في بيوت كثيرة حتّى إنّ كثيراً من الكلمات العربيّة دخلت إلى لغة التّخاطب اليوميّ للأستراليّين، وأشار إلى وسائل الإعلام التي تبثّ بالعربيّة، والمحلّات التّجاريّة التي تبيع منتوجات عربيّة، والمناطق السّكنيّة التي يغلب عليها الطّابع العربيّ، وانتشار مدارس ما بعد الدّوام، كما أنّ اللّغة العربيّة هي مادّة رسميّة في امتحانات الشّهادة الثّانويّة العليا، والمنشورات الكثيرة التي تصدر باللّغة العربيّة، فضلاً عن النّدوات والأمسيات الثّقافيّة.

وبالانتقال إلى ساحل العاج، أشار الأستاذ محمّد عبد الرضى زيعور إلى الصّعوبات التي تعترض تدريس العربيّة كأسلوب تعليمها مثلاً. ورأى أنّ الإدارة المدرسيّة مسؤولة بشكل كبير عن تأمين الوسائل والمناهج المناسبة، وحثّ الأهل على تعزيزها من خلال التّحدّث مع أولادهم بالعربيّة، كما أنّه على المدرسة اختيار الكتاب المناسب لهذه الغاية.