يواجه العراق معضلات متداخلة جعلته في وضع لا يستهان به. وعلى الرغم من الحديث الطويل عن الفساد، فلا يزال مشوار المعالجة طويلا ومعقدا، بسبب حالة الانتشار في كل المؤسسات الرسمية بدرجات متفاوتة، من المستويات الوظيفية البسيطة إلى مواقع حساسة، وهذا يتطلب ثورة ثقافية كبرى، وسلسلة من القرارات الصارمة، التي قد يكون من الصعب تبنيها في المرحلة الحالية، بسبب التوازنات والمصالح والمنافع المتبادلة بين الكتل السياسية، ولتجنب القاطع السلبي في بعض الأحيان.
ابتلي العراق بتعدد الجبهات في زمن ضعف السيطرة وغياب الحزم العادل بحق العابثين، فالقصة تبدو «داعشية»، لكن هناك مصادر تهديد أخرى لا تقل خطرا، لأن الهزيمة المحققة مكتوبة على «دواعش الميدان» قريبا، خلاف «دواعش السياسة والتآمر والتفكيك» من النمط «الإخوانجي» المتخلف، ومن وارثي التآمر على وحدة العراق عموما ونسيج عربه تحديدا، ومن الرعاع المناطقيين، ومن المفسدين الذين أفسدوا في الأرض دون رادع.
وصف عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون ماكين وجود الحرس الثوري الإيراني في العراق بـ«المخيف»، وخلال الأيام الأولى التي أعقبت سقوط الموصل عقبت عبر قناة «العربية الحدث» على إعلان الإدارة الأميركية عدم نيتها التدخل العسكري لمساندة بغداد بأن الإعلان يعني علامة خضراء للتدخل الإيراني. والحقيقة أن كل ما قيل عن تحجيم لدور الجنرال قاسم سليماني أو عزله أو اعتزاله كان مجرد تسريبات وتكهنات لا أساس لها من الصحة، فهو جزء لا يتجزأ من مفهوم وفلسفة «الثورة الإيرانية».
غالبا ما يتردد الأميركيون في تحديد سقف زمني للحرب على «داعش»، ولهم الحق في ذلك، لأن من غير الممكن التحكم في المدد المفترضة إجمالا، بسبب تعدد أبعاد الصراع. ويأتي البعدان العسكري والنفسي في مقدمة الأبعاد وأهمها، ثم الأبعاد الاقتصادية والأمنية والفكرية.
كل المسؤولين الذين يقيمون في بغداد ويدّعون معارضة النفوذ الإيراني في العراق ويتحدثون بلغة طائفية، يحظون بحماية أو عطف أو توجيه بالرعاية من قبل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، وتبين أن كثيرا منهم كانوا من «زوّار طهران ليلا»، وما كان ممكنا أن يتحركوا ويتنقلوا داخل المدينة خلاف هذه الحقيقة الثابتة. مع ذلك، لا يزالون يصدعون رؤوسنا بخزعبلات «وطنيتهم» الزائفة المبنية على الفساد، ولم يصب أحد منهم ومن ذويهم وممتلكاتهم بضرر، ولا تزال ممتلكاتهم تتضخم دون رادع.
الخلل فيما يسمى بـ«التوازن» بين ممثلي الشرائح العراقية في القوات المسلحة ولد من رحم الفتاوى والمواقف الخاطئة، التي كانت تنادي بمقاتلة القوات الأميركية والحكومية تحت لافتة المقاومة، واستهداف الإرهاب للمتطوعين في الجيش والشرطة بعد إلغاء الخدمة الإلزامية، فأصبح عدد العسكريين من أبناء محافظات شمال بغداد وغربها قليلا للغاية، إضافة إلى ما ترتب على قانون اجتثاث البعث الذي مورس بهوامش غير ثابتة وكان موضع انتقادات مستمرة.
وأظهرت النكسة والتراجع أمام هجمات «الدواعش» أن البناء العسكري لم يبلغ المستويات المطلوبة لمجابهة التهديدات، خصوصا بعد ظهور أرقام عما اصطلح عليهم بـ«الجنود الفضائيين»، إلى جانب حدوث حا
عندما يختار طرف ما التقاطع السلبي مع التزامات المواطنة ووحدة البلاد لا بد أن يضع نفسه في حالة الخصومة مع الطرف الذي يبقى حريصا على ما جُبل عليه من حرص على الثوابت الوطنية والمجتمعية، فيتحول الداعمون من موقف المساندة إلى حالة معاكسة، ومثل هذا الوضع ظهر كثيرا بعد التجاذبات التي حدثت بعد 2003، حيث تنقّل بعض السياسيين بين مواقع متناقضة، وانسحبت هذه المتضادات سلبا على العراق ومستقبله، مما يتطلب تضييق زوايا الرؤية الطائفية والحزبية.
وإذا أخذنا محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل، التي تضم نحو أربعة ملايين شخص، وثاني أكبر وحدة إدارية بعد العاصمة بغداد، فقد حدثت مشكلات جرى تضخيمها بسبب تصادم المسؤولين ا
تبدو الصورة هكذا، لكن لفترة وجيزة وفي مناطق محددة، حيث هاجموا في نقاط عدة شمال بغداد وغربها، أي في المناطق العربية السنية وفق توصيفات التشرذم الـ«لا وطني» التي يحلو للبعض تداولها. وبقيت جبهة الموصل ساكنة عدا هجوم محدود على قوات البيشمركة في سد الموصل. ولم أجد تفسيرا منطقيا وحجة مقبولة للسكون في ثاني أكبر مدينة عراقية.
عندما بدأت الاحتجاجات في الأنبار كتبت مقالا وصفت فيه ما يحدث بـ«فتنة الأنبار»، وكان أسوأ ما في الاحتجاجات أن يتصدر واجهتها رجال دين لا تزال أعمارهم دون مستوى التأهيل العلمي والثقافي والديني المطلوب للتصدي لمسؤوليات كبيرة ترتبط بمعادلات محلية وإقليمية ودولية معقدة. وإلى جانب هؤلاء وقف سياسيون من قصيري النظر بعضهم كان على صلة بالإرهاب فعلا.
بعد غد يصادف مرور 20 عاما على تمردي على نظام صدام حسين وانتقالي «العلني» إلى صفوف المعارضة، وقد استغرقت رحلة مغادرتي منطقة سيطرة النظام 30 ساعة سيرا شاقا على الأقدام، كانت أعظم خطرا من مراحل مسؤوليات تئن من حملها الجبال.
وقدر لي وأنا في عز الشباب قبل 35 عاما أن أطلع على مراحل التخطيط العسكري للحرب مع إيران، لأراها الآن أحد أسوأ أشكال التخطيط الاستراتيجي، فقد كانت فكرة الحرب صبيانية مبنية على التخلف الفكري، ونابعة من التهور السياسي المفرط، والاستهتار بمصالح الشعوب ومصيرها. وكل ما نشاهده اليوم من دمار واهتزاز في أمن العالم من نتاج تلك المرحلة السيئة.